شريط الملتقى

مقالات

الحوار بين الأديان – التحديات والآفاق

الدكتور حسن الترابى


  لا يزال العالم يشهد تحركاً عاماً يبتعد به عن الرؤية الدينية للكون وللحياة،  ولئن برزت في الآونة الأخيرة بوادر صحوة دينية هنا وهنالك في أنحاء العالم المتفرقة ، فما الصحوة الدينية إلا ردة فعل للفعل الأساسي ، الذي ظل يتعاظم يوماً بعد الآخر وذلك هو التراجع عن الدين وتكريس العلمنة، حتى دخلت " اللادينية" الباب علي المتدينين في كنائسهم ومعابدهم ومساجدهم لتؤثر علي الشعائر الدينية والطقوس والرموز داخل بيوت العبادة . ذلك أن العلمانية قد تحولت من ردة فعل متمردة علي الدين إلي دين اصطناعي له رؤيته البديلة للكون وللحياة والإنسان وله قداسته التي يضفيها علي ما يشاء من أجناس أو مؤسسات أو أشخاص . وهو دين ينزع القداسة من اله واحد ليضفيها علي أشياء وأشخاص متكاثرين وبذلك ينقل الناس من القبلة الواحدة إلي الضلال في كل اتجاه ، ومن الإله الواحد إلي الآلهة المتعددين المتكاثرين ، ومن الإيمان بالغيب إلي الإيمان بالمشهود " الوضعي" فحسب . وهو بذلك ينزع الخصوصية عن الإنسان الذي كان أحد طرفي العلاقة الثنائية العبادية ليصبح الإنسان موجوداً مثل سائر الموجودات ، مثل الأشجار والأحجار ، فمادته نفس مادتها وهو يخضع للقانون الطبيعي الذي تخضع له ، وبالإمكان التعامل معه بنفس المعايير والمقاييس الكمية والحسابية التي تستخدم لقياس سائر الظواهر الطبيعية الأخرى . وبذلك يتحول الإنسان إلي رقم أخر مثل سائر الأرقام تطبق عليه الأسس الموضوعية دون مراعاة لخصوصية الأديان والأخلاق والأعراف .
 
وقد كان الفساد العريض هو نتاج هذا المد اللاديني العلماني فأصبح الظلم الاقتصادي بإطلاق المنافسة بغير ضوابط أخلاقية ولا نظامية ، يجد تبريره في النظريات الرأسمالية العلمانية الجديدة مما جعل الفقر والبؤس قدراً مقدوراً علي الغالبية من المواطنين في كل دولة، وعلي السواد الأعظم من سكان الأرض ، لتحظى ثلة من الناس قليلة بالتمتع في جنة العلمانية الأرضية ، تطلق لها حقوق الملكية الخاصة بلا مسئولية بغير مراعاة المصلحة العامة للشعب. وباسم الشرعيات الوضعية يتاح للقلة أن تتخذ سائر الناس سخرياً يبذلون العرق والجهد لتحظي هي بثمرة كدهم وكدحهم وقوة عملهم تتخذها وسيلة لا ستدامة حياة الترف والفجور التي تحيا وتعيش . ومثلما أخرجت الشرائع الأخلاقية الدينية التي تضمن العدل والمساواة والإحساس بين الناس من الاعتبار، واستبعدت الأخلاق والشرائع الدينية عن السياسة فتحولت السياسة إلي لعبة قدرة كما يقولون ، بتصارع أهل القدرة والحظوة فيها علي الاستئثار بالمزيد من المصالح والمنافع العاجلة بغير كبير اعتبار لمصلحة الشعب الذي باسمه يحكمون ، ليس هذا فحسب بل أن اللادينية تغلغلت إلي أساس الاجتماع البشري وهي الأسرة لتقوم بتفكيك روابطها وحل وشائجها وتحويلها من خلية للتكافل والتراحم والمودة إلي اجتماع عرضي بين ذكر وأنثي يقضيان وطرأ عابراً ولا يهم ما يترتب علي ذلك من بعد، ولذلك شهدنا التفكك الأسري الذي أطاح بالأمان النفسي الذي كانت تنعم به الأسري التي تؤسسها القيم الدينية وتنظم العلاقات فيها علي هدي الشريعة الدينية القائمة علي الشورى والمودة والتكافل . واللادينية العلمانية بعد ان اصبح تعريفها للأسرة مقصوراً علي العلاقة الجنسية، ألغت مؤسسة الزواج لأن اللذة يمكن أن يتحصل عليها بالتزام أقل تقييداً ، ثم ألغت القيد الذي يقصر الجنس علي علاقة الرجل بالمرأة لتخرج به إلي كل علاقة شاذة تحقق مقصود تحصيل اللذة ، وبذلك ضربت اللادينية بمعولها في أساس المجتمع ومع انهدام أسوار الأسرة تسلل الأمن والسكن والراحة النفسية خارجاً وحلت العدمية واليأس والخوف محل المودة والرحمة فكان ما كان مما نري ونشهد من انتشار الجريمة والانتحار والغيبوبة في المخدرات والصراعات المجنونة والعقائد المهووسة .
 
 
إن التحدي الأكبر الذي يواجه أصحاب الأديان في العالم اليوم هو مواجهة هذا المد اللاديني المتعاظم الذي يزحف الآن ليفرض نفسه شريعة عالمية تخضع لها كل الدنيا طائعة أو صاغرة . وبناء هذه الجبهة الدينية مطلب ديني يرتكز علي مبدأ وحدة الأديان السماوية التي جاءت جميعاً بالهدي الرباني الذي يحقق السعادة والطمأنينة والاستقرار للبشرية " قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم من هدي فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون  "(البقرة ) . والإسلام علي مستوي المثال هو دين واحد لكل الرسل والأنبياء من لدن آدم عليه السلام ووحدة المتدينين عبر التاريخ هي الغاية المنشودة والهدف المطلوب ولكن المنطق نحو تحقيق المثال بدأ بخصوصية في المحل والوقت وبالتالي خصوصية في الخطاب تناسب طائفة من المدعوين للإسلام  ) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(  سورة إبراهيم . وليست الخصوصية فيما يتعلق باللغة فحسب بل بحاجات هؤلاء القوم ومشكلاتهم وظروفهم فنجد من الرسل من كان محور رسالته معالجة أزمة سياسية كانت ظروفها هي المدخل المعين المحدد إلي الخطاب بحقائق التوحيد والكون والحياة وذلك هو موسى عليه السلام الذي جاهد ضد طاغوت الفرعون المضروب علي المستضعفين من بني إسرائيل في مصر . ومن الرسل من كانت أزمة العلاقات الاقتصادية هي محور الخطاب المعين في رسالته الهادية إلي مطلقات التوحيد وحقائق الكون والحياة وذلكم هو شعيب عليه السلام مع مدين الذين نقصوا المكيال والميزان وبخسوا الحقوق .
 
ولئن بدا في خصوص هذه الرسالات إنها صور خطاب معين لمعالجة مشكلات جزئية ووقتية معالجة تحقق العبادة بوجه مباشر فعال في الواقع فأنها في عموم مقاصدها كانت تعبر عن جوهر رسالة الإسلام متمثلة في محل محدود وزمان معلوم وقوم مخصوصين بكل ما في هذا الواقع المحدود من مشكلات وأزمات وظروف متخذة من ذلك الواقع مادة لتحقيق كيان عابد وواقع إسلامي متوجه من ثم علي اختلاف الأزمان والأمكنة لتحقيق كلمة الإسلام المطلقة الواحدة التي اجمع عليها الرسل في أمتهم الواحدة وكل العابدين الموحدة مسلمين حقاً لله رب العالمين .
 
فالإسلام ليس علماً علي دين فحسب هو الرسالة المحمدية بل نهج التوحيد الذي يقوم علي إسلام النفس والحياة طوعاً لله الذي خلق الأنفس وخلق الحياة . واشتقاق كلمة إسلام من جذر واحد في اللغة العربية تخرج منه كلمة السلام ذلك أن ثمرة الإسلام هي السلام مع النفس ، والسلام مع الطبيعة ، والسلام مع الآخرين جميعاً والسلام مع أمر الله في الدنيا والسلام منه في الآخرة في دار السلام ولو أن أهل الأرض استجابوا جميعاً لنداء الإسلام لتحقق وعد الله بنفي الخوف والحزن عنهم . وإذا ارتفع الخوف والحزن عن الناس فقد حلت بالناس المسرة وساد علي الأرض السلام .
 
 
ولقد جاءت رسالة المسيح عليه السلام في نفس السياق التاريخي من الرسل الذين يصدق بعضهم بعضاً وجاءت دعوة عيسي عليه السلام لرفع الأصر والأغلال التي ضربها بنو إسرائيل علي أنفسهم بالتساهل فيما أمر به الله والتشدد فيما لم يأمر به وليناهض المادية الغليظة التي ناءت بكلكلها علي الحياة . جاء عيسي عليه السلام برسالة اليسر بعد العسر والمحبة بدل التباغض والعفو بدل الانتقام والسلام بدل الحرب ولكن رسالة المسيح عليه السلام جاءت خطاباً خاصاً لبني إسرائيل تجاوزت خصوصيات هذا الواقع الإسرائيلي لتخاطب كل الناس بعقيدة التوحيد وبحقائق الكون والحياة . وهكذا تعاقب الرسل في موكب تاريخي يصدق بعضهم بعضاً ملة واحدة للعالمين اسماها إبراهيم عليه السلام أمة المسلمين عندما دعا ربه وإسماعيل ) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة  مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ( (البقرة) .
 
واستمر هذا الموكب الرسالي حتى تكامل الأمر في الرسالة المحمدية التي جاءت للعرب ثم للناس كافة ليدخلوا في الملة الخاتمة جميعاً ولقد جاءت الرسالة المحمدية بالمبادئ الخالدة ألاّ إكراه في الدين : ) لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ( (البقرة) وبذلك أرست مبدأ حرية الاعتقاد ثم جاءت بمبدأ الحوار : ) ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن ( وجعلت الرسالة المحمدية الإيمان بالرسل السابقين فرضاً علي اتباعها : ) قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( (البقرة)، بل دعت إلي البر والإحسان بمن لم يقاتل المسلمين ليردهم عن دينهم )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين(  (الممتحنة) بل دعا القرآن أهل الأديان الكتابية إلى اتحاد ديني ينهض علي كلمة التوحيد  )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله ( (آل عمران) .
 
وهذه هي دعوتنا اليوم : أن نقيم جبهة أهل الكتاب، والكتاب عندما يطلق في القرآن يقصد به كل كتاب جاء من عند الله . وميثاق هذه الجبهة " إلا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله " ونفهم من ذلك ألا نقبل أي فكر وضعي يناقض الهدي الإلهي وألا نقبل الدعوات اللادينية . ولئن كان هذا أمراً مطلوباً منذ قرون مضت فأنه مطلوب اليوم بأكثر مما كان مطلوباً في أي يوم من الأيام ، ذلك أن الفساد قد ظهر في البر والبحر واستعلي أهل الباطل بباطلهم واستخزي أهل الحق بحقهم ولابد من لقاء بين الأديان يرد الهجمة علي الإيمان وعلي الأخلاق الفاضلة والمثل النبيلة التي جاءت بها الأديان جميعاً .
 
 
إن قيام جبهة المؤمنين هو مطلوب الساعة وينبغي ألا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية فنحن نعلم جميعاً ان الكثير من الحروب التي شنت باسم الدين والاضطهاد الذي وقع باسم الدين كان الدين منه براء لأن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها – رسالة الفضيلة والسلام – بحد السيف أو القنابل والمدافع . ونحن نقرأ تاريخ الحروب الصليبية التي شنت علي المشرق فنراها حملات استعمارية استخدم فيها بعض ملوك أوروبا شعار الصليب وأسم المسيحية ليحققوا توسعاً استعمارياً تتعبأ فيه جماهيرهم المؤمنة ويمدهم بالموارد وبكنوز الشرق التي كانوا يسمعون بها . وكذلك جاءت الموجه المتأخرة من الاستعمار واستخدمت اسم الدين ودعاوى التبشير لتبسط نفوذها علي الأرض والناس تتخذهم سلعة لتجارة الرقيق وسخرياً لتحقيق مآربها الدنيوية المفارقة لهدي الأديان جميعاً .
 
ولقد جاءت الموجة الاستعمارية بعرقيتها وعنصريتها مخالفة لهدي الإخاء المسيحي الذي لا يري فرقاً بين أبيض وأسود إلا بالتقوى والأيمان .
ونحن اليوم مواجهون بتحدي الدفاع عن أصل التدين في الأرض وهذا التحدي ينبغي أن يدفعنا نحو تجاوز الشكوك والتوجسات لنتعاون علي البر والمشترك بين الأديان . ولنبدأ صفحة جديدة من الحوار الذي يحيي مثالاً دينياً في كيفية التعامل مع الآخر باليسر والحسنى فقد ظلت الأمراض ملازمة لحركة المتدينين تعييهم بالعجز عن الحوار مع الآخر والعجز عن التعايش مع الآخر .