شريط الملتقى

مقالات

الحداثة في خطاب العلايلي وفضل الله

بشارة مرهج – رئيس مجلس إدارة دار الندوة

(محاضرة ألقيت في الندوة التكريمية للعلامة الشيخ عبد الله العلايلي بدعوة من ملتقى الأديان والثقافات بتاريخ 28-2-2017)

  إنّها مجازفة كبيرة أنْ أتحدّثَ عن شخصيتين إسلاميّتين لهما حضور ساطع في لبنان والعالمين العربيّ والإسلاميّ، ويُعتبران من أبرز رجال الدين العرب ممن أثّروا في واقعهم وأثْروا مجتمعهم وتركوا آثارًا طيّبة، لا تُمحى، على صفحات المرحلة .

 وحديثي عن السيد محمد حسين فضل الله والشيخ عبدالله العلايلي ليس أطروحة، وإنّما هو مجردُ أفكارٍ دوّنتها من وحي قراءات، غير مكتملة، لكتابات كل منهما ومواقفه، مع محاولتي التركيز في هذه السطور على أوجه الترابط والتقارب بينهما، كما على البعد الحداثيّ لديهما، معترفًا سلفًا بعجزي عن إيفاء الموضوع حقه، مسجّلًا تقديري العميق لصاحبيه اللذين أعطيا حياتهما لمهام البحث والتنقيب كما للدعوة والإصلاح، مستلهمينِ في كل الأعمال الجليلةِ التي قاما بها، على صعيد الكلمة أو النضال، روح الإسلام الحنيف ورسالته الإنسانية فكانا في كلّ ذلك مثالًا للجرأة والريادة والتفاني، حيث بلغا مرتبة المرجعية التي تُستفتَى وترجّح وتنير وتشيع الطمأنينة والأمل في النفوس، وتلك صفة العلماء الكبار الذين يعيشون عصرهم وينظرون إلى ماهو أبعد، فلا يتوقّفون عن طلب العلم، ولا يبخلون في العطاء، ولا تغيب عيونهم لحظة عن مصلحة الأمّة .

وانطلاقًا من إيمانهما الإسلاميّ وانفتاحهما على العصر كان العالمان من أشدّ أنصار حرية الاختيار والاعتقاد والرأي، فأيّدا حقوق الإنسان الذي حباه الله بالعقل والقدرة على القراءة والتمييز بين الخير والشر. فللإنسان الحرية، وللرسول البلاغ، ولله الحساب. وإذا كان للإنسان أن يكفر إذا شاء أو أن يؤمن إذا شاء فعليه أن يدرك المسؤوليّة الموازية في هذا المضمار؛ سواء من حيث التبليغ أو من حيث الحساب. فالحريّة لا تعني الاستباحة أو الفوضى وإنما هي فضيلة قائمة بذاتها ومرتبطة ارتباطًا عضويًّا بالمسؤوليّة تجاه الغير ، ومرهونة بحضور العقل واستحضاره. اما العقل

فموجود لوعي الواقع والكشف عن أسراره وقوانينه، كما أنّه موجود للتقييم والتقدير، وإلّا فكيف يكون الإنسان مسؤولًا عن أعماله وخاضعًا للثواب والعقاب ! ؟ فالحريّة هنا ليست مسأله جانبيّة أو منحة من السلطان وإنّما هي معطَى إنسانيٌّ ونعمةٌ ربّانيّةٌ لا تستقيم الحياة الإنسانيّة من دونها. وإذ دعا العالمان إلى حريّة الإنسان، فقد حمّلا الحاكم مسؤوليّة احترامها وحمايتها بما يضمن استقرار المجتمع وإطلاق حيويّته فيرتقي في معارج الحضارة والتقدّم .

 ومن نافل القول أنّ تطبيق هذه المنهجيّة التي يدعو إليها الإسلام  والعقل السليم يَحُدُّ من تسلّط الحاكم، ويساهم في توزيع الثروة بالعدل وبحسب الكفاءةِ والجهد، بما يؤدّي الى تحقيق الكفاية والاستقرار في المجتمع، ومحاصرة أيّ نزعة للتطرف والغلوّ، وإسقاط الذرائع التي تستدعيها هذه النزعة لتبرير أفعالها التي تتنافى مع أبسطِ المبادئ الدينيّة والإنسانيّة .

 وبهذا الالتزام الواضح لديهما بمبدأ الحرية أثبت العالمان الجليلان أنّهما يعيشان في قلب العصر، حيثُ الفردُ الحرُّ هو محورُ الحياة الحديثة وأساسُ العائلةِ والجماعة والمجتمع، وإليه تتوجه الدساتير وحوله تتمحور القوانين.

 وإذا كانت الحرّيّة مكرّسةً في الحياة الاجتماعيّة، فهي مكرّسة قبل ذلك في الدين من خلال آيات كريمة عديدة منها : "ولو شاء ربُّك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".

 ومن الواضح هنا أنّ  هذه الآيات المحكمة  الصريحة في دعوتها للحرية ورفضها للاكراه انما تنطبق على جميع الناس بمن فيهم الرسلُ والأنبياءُ بما يعكسُ روحَ العدالةِ والمساواة التي تتجلّى في الإسلام ، لا بل تشكل  منهجًا متكاملًا للذين يتفكّرون من دون استثناء .

تفوّق العالمان في فهم النص القرآنيِّ بعمقِه وشموليّتِه فأجادا في مجال التفسير والاجتهاد وتمكّنا، بوافرِ علمِهما، من الارتقاءِ بالخطابِ الدينيِّ إلى ذرى القضايا الإنسانيّة الكبرى، مثلما تمكّنا من وضعه بمتناول الجماعة ومصالحها، فكان لهما التأثيرُ الكبيرُ على جمهورِ المؤمنيين كما على أهلِ العلمِ والسياسة .

وفي هذا السياق أدّى كلاهما خدمةً جلّى للإسلام، إذ قدّماه للأجيالِ بحقيقتِهِ الجوهريّةِ الحركيّة التي تتفاعل مع العصر وقضاياه ومستجدّاته بعيدًا عن الجمود والنمطيّة .

 وفي سعيهما إلى تحريك الواقع والنهوض به، حرص المرجعان على التمسّك بالقواعد الشرعيّة والإيمانيّة، واعتبرا أنّ الاجتهادَ يحرّك العقلَ ويفتح الطريق نحو النموِّ والابداع. فالنصُّ الدينيُّ حضَّ المسلم على القراءة والعمل وطلبِ العلمَ ولو في الصين، وقال له، مستهلًّا الكتابَ، "اقرأ"،  ثم  خاطبه: "وقلِ اعملوا فَسيرى الله عملَكُمْ ورسولُه والمؤمنون".

وانطلاقًا من نزعتهما الإصلاحيّةِ قرأَ الإمامانِ النص الدينيَّ والحديثَ الشريفَ بمنظارٍ معرفيٍّ متحرّرٍ، فتجاوزا النظرةَ الضيّقةَ المتزمّتةَ التي غالبًا ما تركن إلى التقليد والاجترار لنقصٍ في العلم أو خوفًا من مبادرة .

 وقد التزم كلاهما بالقاعدة المعروفةِ التي تقول أنْ: "لا رهبانيّة في الإسلام". فلا مكانَ للوسيط بين المؤمنِ وربِّه إذا اتّخذ الوسيط شكل السلطة التي تحتكر النطق بأسم الدين وتطبيقِ أحكامِه . فكأنّهما أرادا بذلك الموقفِ تبرئَةَ الدين من كلِّ سلطةٍ توظّفُهُ لمصلحتها وإعادتِهِ إلى المؤمنين به هاديًا وسراجًا منيرًا .

وإذ ألحَّ عليهما السؤال وجدا الجواب في تحرير الفهم الديني من الجمود والتخلّف، واكتسابِ العلومِ والمعارفِ وتحقيقِ وحدةِ الأمّة. ومن هنا كان لهما الدورُ البارزُ في الحياةِ العامّةِ ومناهضةِ الطغيانِ والانعزال، وإطلاقِ حريّةِ التعبير، وتشجيعِ قيامِ الهيئاتِ والمؤسّساتِ العاملةِ في حقلِ التوعيةِ والتنويرِ، كما في حقلِ التربيةِ والاجتماع .

إنّ تسييسَ الدين أو ممارسةَ الحُكمِ باسمِ السلطةِ الدينيّةِ من شأنه التضييقُ على الحوار وزيادةُ منسوبِ الانغلاق، وربّما إنتاجُ مجموعاتٍ متطرّفةٍ تعتقدُ بالسيطرةِ والتسلّطِ  وشرعيّةِ حرمانِ الآخرِ من ممارسةِ حقوقِه، كما حرمانُ المجتمعِ من إصلاحِ نفسِهِ باعتبارِ أنّ الحاكمَ هو وحدَهُ القادرُ والمؤهَّلُ للقيامِ بهذه المهمّاتِ الخطيرة، لكونِهِ يملك التفويضَ الإلهيَّ، فكيف لك أنْ تناقشَ أو تعارضَ من يحسبُ نفسَهُ في هذا الموقعِ.

بالنسبةِ إلى هذا الموضوع لا تتطابقُ مواقفُ المرجعين، بل تتقاطعُ؛ إذ إنَّ المشكلةَ  ليستْ في رجال الدين ولكنّها في الممارسةِ الديكتاتوريّةِ التي تحطُّ من قدرِ الإنسانِ وتكشفُ صاحبَها على حقيقتِهِ المزرية، سواءٌ أكان من رجال الدين أم من رجال الدنيا، فرجل الدينُ المنغلقُ كما السياسيُّ المتعصّبُ يشكّلانِ عبئًا على المجتمعِ، في حينِ أنَّ العالمَ المتنوّرَ، كما السياسيُّ العادلُ، كلاهما نافعانِ لمجتمعِهما.

 إنّ تمسّك الجماهيرِ بالإسلام أمرٌ بديهيٌّ، ولا سيّما في ظلِّ الاستبدادِ الدوليِّ والصهيونيّ الذي يحتلُّ الأرضَ ويقمعُ الشعبَ ويعتمدُ الإذلالَ وينهبُ الثرواتِ ويدعمُ الفسادَ وجماعاتِه . فالاسلام هنا ليس مرجعية دينية اخلاقية فحسب ، وانما هو ايضا حصن ثقافي  وحضاري يلوذ اليه المؤمنون لمواجهة من يستهدف الحقوق والارض والهوية . وإذا كانت بعضُ الجماعاتِ المتطرّفةِ تذهبُ في ردودِ فعلِها إلى درجةِ الانغلاقِ على الذات والعيشِ في الماضي، فتأخذُ القانونَ بأيديها وتكلّفُ نفسَها بالسلطان، وإصدارِ الأحكام، وتكفيرِ الناس بما يؤدّي إلى إشاعةِ الفوضى وتصديعِ الاجتماعِ الإنسانيّ، فإنَّ من واجبات الجماعات المستنيرةِ مواجهةُ هذا الانحرافِ بالعقل والمنطق وكشف التهافتِ والتعصّب الذي يتنافى مع أحكامِ الدين ، و التاكيد على  حريّةَ الإنسان ومسؤوليّته في آن: "ومنْ يعملْ مثقالَ ذرّةٍ خيرًا يرَه ، ومنْ يعملْ مثقالَ ذرّةٍ شرًّا يرَه". وتأبى أخذ البريءِ بجريرةِ المذنب: "ولا تزِرُ وازرةٌ وزرَ أُخرى"؛ علمًا أنّ الإسلامَ لم يحدّدْ نظامًا معيّنًا للحكم، وإنّما جعل الأمرَ شورى بين الناس يتجادلون بالتي هي أحسن ويدعون إلى سبيل ربِّهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة .

وكان من الطبيعي ان يجد الامامان  في الطائيفية ضعفا وتهافتا فوقفا منها موقف الناقد والرافض والداعي الى تجاوزها وتجنب توظيفها في السياسة ، فساهم خطابهما الاسلامي العلمي الجامع في الكشف عن مساوئها خصوصا في زمن يتوسلها الاجنبي المستعمر ، والصهيوني المغتصب اداه لتوسيع رقعة الخلاف داخل مجتمع عربي مأزوم ، منكوب بحكام  يوظفون الطائفية في السياسة وتشدتهم الغرائز الى كهوفها .

كان يخشيان العصبيات الضيقة التي تقود الى الانفعالات المسيئة للغير او للمجتمع ، مثلما كانا ينتقدان التعصب بأعتباره من علامات الضعف الذي يعمي البصيرة ، ويبعد المرء عن رؤية الحقيقة ومعرفة مصلحته الحقيقية التي تقضي بالتفاهم مع الاخر القريب ،والتركيز على الحوار وكلمة سواء .

وكأنّهما كانا في حالة غليانٍ داخلي؛ إذ شقَّ عليهما أنْ تكونَ بلادُهما إمّا تحت الانتدابِ الأجنبيّ أو تحت الاحتلالِ الصهيونيّ، فتوالت مواقفُهما الفكريّةُ والعمليّةُ ثورةً عارمةً على المنتدبِ والمحتلِّ ودعوةً صارخةً للمقاومة والعروبة  والتحريرِ  .

وقد زاد تبحّرُهما في ميادينِ العلومِ والفقهِ والمعرفةِ من وضوحِ الرؤيةِ لديهما فاتّضح لهما الواقعُ المؤلمُ لأمّة تعيشُ التخلّفَ والتبعيّةَ والانقسام، فرفضا ذلك الواقعَ الذي لا يليقُ بأمّةٍ عريقةٍ لها تاريخُها وحضورُها ورسالتُها، وانطلقا في ميادين النضالِ الفكريِّ والسياسيِّ فكانا في طليعة أهلِ النهضةِ والإصلاح، كشفًا للخللِ وتصدّيًا له، موجّهيْن الناسِ إلى المشاركة في معركة المصيرِ القوميِّ والخروجِ من دائرة التلقّي والاتّباع، والانخراطِ في العمليّة النضاليّة الواعية لتحرير الأوطانِ واستعادةِ موقع الأمّة في حركة العصرِ تفاعلًا واستيعابًا وعطاءً. فكلاهما أدرك أنّ العالمَ ساحةُ صراعٍ لا مكانَ فيه للتخلّفِ والضعفِ، ولذلك دَعَوَا إلى التسلّح بالعلم والمعرفةِ والاتحاد القوميِّ لتمكين الأمّةِ من جبهِ أعدائِها . ولقد خاض كلٌّ منهما غمارَ الحربِ ضدّ التحجّرِ والاستلابِ كما ضدّ الاحتلالِ والتبعيّةِ، فكانت مواقفُهما وطنيةً ناصعةً وإسلاميّةً جامعة .

 الحداثةُ الحقيقيّةُ هي التي تنبعُ من الذات وتصدُرُ عن اقتناعٍ داخليٍّ عميق وتغتني بالإرث الحضاريِّ الذي ننتمي إليه والذي يدعونا إلى تحديثه بوعي ومسؤولية، ابتغاءً لاستئناف المسيرة الحضاريّةِ التي تعثّرت وتوقفت نتيجة التدخّلِ الخارجيِّ وتعطيلِ العقلِ ونشرِ ثقافةِ الاتّكاليّةِ والاجترار .

  وقد اعتبر العالمان الجليلان أنّ الانتسابَ لتيّارِ الحداثةِ امرٌ بديهيٌّ بالنسبة للفرد العربي الذي يتحقّقُ حضورُهُ بقدر تفاعُلِه مع العصرِ والانخراطِ في مسيرتِهِ وعيًا ومعرفةً وعملًا. والحداثةُ بالنسبة إليهما ليست بالقطع مع التراث، وإنّما بالقطع مع الموروثِ الجامدِ، والفكرِ المتهالك ، والتقاليدِ البائسةِ، والأوهامِ المستحضَرةِ والخرافاتِ المقيمةِ في عقولنا المعطّلة.

بل إنّ الحداثة الحقيقيّة هي في استعادة كنوزِ التراثِ التي حرّكت يومًا دورةَ الحضارةِ بقدرِ ما هي اليوم استيعابٌ لحركة العصرِ وفهمِ قوانينِهِ وهضمِ آليّاتِ عمله. فالسلفُ الصالحُ لم يقُلْ لنا: هذه هي مدرستي ، وهذا هو نموذجي فاكتفوا بهما، بل قال لنا: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وقال لنا: "اقرأ" و"تفكّر" و"اعمل"، و"ما كان من دنياكم فأنتم أولى به".

وكما أنّ الحداثة ليست بالنقل عن الغرب فهي ليست بإنكار ما أنجزه الغرب في ميادين العلوم والتكنولوجيا.  هي جهدٌ متواصلٌ لا بدّ منه لاكتساب المعرفةِ ومراكمتِها واكتناهِ قوانينِها سواءٌ كانت جزءًا من تراثنا أم ملكًا للفضاء الإنسانيّ .  وبذلك يكون فهمُ الحاضرِ، كما العودةُ للماضي، طريقان يتلاقيان لاستعادة التوازن وتحصين الذات واستنهاض الأمّة ودحرِ الغزو الاستعماريّ الذي يتحوّل في جانب منه إلى غزوةٍ ثقافيّةٍ مستمرّةٍ لا تعرف المهادنةَ، تستهدفُ الهويّةَ والكيان .

 رفض الإثنان أن يعيشا خارجَ العصر أو على هامشه، كما رفضا الاستكانةَ والاجترار، فآثرا التفاعلَ مع الراهنِ والمتحوّلِ من موقع الإرادةِ والعقل فناهضا ما اعتبراه سلبيًّا مسيئًا للمجتمع والإنسان من أيّ مصدر أتى، وأيّدا كلَّ ما اعتبراه إيجابيًّا ومفيدًا للمجتمع والإنسان من أيّ مصدر اتى. وأبرزا في مقاربتينِ متشابهتين عقلانيّةَ الإسلامِ وانحيازَهُ الكلّيَّ إلى مصلحة الإنسان؛ تلك المصلحة التي تقضي بالمبادرة واستيعابِ تطورات العصر والتعامل معها إيجابيًّا من موقع الاستقلاليّة والثقةِ بالنفس؛ سواءٌ أكانت تلك التطوراتُ في ميادين العلمِ والثقافة وما يرافقُها من اختراعات واكتشافات، أو كانت في ميادين السياسةِ والإدارة وما يرافقُها من جديد المقاربات والإجراءات. وشدّدا في كل ذلك على طرح الأوهامِ والخرافات جانبًا منبهيْن إلى ضرورة الاستناد إلى العلم والمنطق في كلّ القضايا الدينويّة.

 تميّز الرجلان بسموِّ الخلقِ والعقلِ المستنير والإيمانِ الراسخ والدعوةِ الصادقة والرؤيةِ الواضحة والآراء السديدة والجرأة في قول الحقّ. وقد عُرِفا بنزعتهما العلميّة وانحيازِهما إلى فضيلة الحوار الموصلة الى الحقّ واليقين، والعاصمة من الإكراه والفرض، وكانا يدركان أهميّة الفكر الحر في تبيانِ الحقائقِ وصياغةِ المعادلات وبناء التفاهمات التي تضمن للمجتمع الاستقرارِ والسلام .

 وبالمقابل كانا يدركان خطورةَ النزعاتِ السلطويّة والإقصائيّة التي تنظر إلى الآخر نظرةً دونية ، تصادر حقوقَه، وتبرّر إلغاءَه من المعادلة، وتجيز لنفسها  التحكّمَ بالقرار واحتكار السلطةَ وما تظنُّه الحقيقة.

 وقد جسّد المرجعانِ فضيلةَ التواصلِ الإنسانيّ في كلّ أعمالِهما فكانا في قلبِ حركةِ الفكر والفعل في المجتمع؛  يبحثان وأخيارَه عن أفضل السبلِ لتوحيدِهِ وبثِّ روحِ الصمودِ والمقاومةِ في ثناياه وتمكينِه من التصدّي للمستعمر المغتصب للأرض، المستهترِ بالكرامات، العاملِ على بثّ الفرقةِ والانقسام داخلَ البيت الوطنيِّ أو القوميّ.

 وفي الفضاء العام، حيث تشتبك المدارس الفكريّةُ وتتصادم الأهواءُ السياسيّةُ، برز المرجعانِ عنوانَيْنِ للتبصّر والاعتدالِ والحكمةِ في مقاربة قضايا المجتمع والإقرار بحقّ الشعبِ في اختيارِ نظامِ الحكمِ واختيارِ الحاكم .

  وأكاد في هذا السياق أضمُّ إليهما الشيخ راشد الغنّوشى زعيم حركة النهضة الإسلاميّة في تونس الذي رفض العنف في السياسة وآمن كالمرجعين بالتلازم بين العروبة والإسلام وتبنّى الفكرة الديمقراطيّة في إدارة شؤون الدولة من دون أنْ يتخلَّى قيد أنملة عن معتقده الدينيّ أو عن حقّه في الدعوة والمشاركة في الحكمِ وصياغةِ مستقبلِ المجتمع .

 وبهذا المعنى تبرز نفحة الحداثة لدى المرجعيتين؛ العلايلي وفضل الله اللذين عاشا عصرَهما وتابعا حركةَ تطوّرِه وساهما مساهمةً فعالة في تحريك المياهِ الراكدةِ وتجاوزِ التقليد البالي  ودفعِ المجتمع اللبنانيّ والعربيّ نحو الانفتاحِ والتفاعلِ مع معطياتِ العصرِ وتجلياتِه، مستنديْنِ إلى ثقتهما الراسخة بالإسلام، مدفوعيْنِ برغبةٍ جارفةٍ إلى تحفيز حركة الاجتهاد على قاعدتَي الإيمان والعلم، والتعاون مع النُّخب السياسيّةِ والدينيّةِ لإصلاح المجتمع المشدودِ إلى العصبيّات الجاهليّة والمنبهر بالمبتكرات الغربية.

 وكنت كلّما استمعْتُ أو قرأتُ للمرجعيّتيْن أشعرُ بالثقة بعلمائِنا الأحرار وتراثنا الغنيّ، وأؤمنُ بقدرتنا من خلال الجهد والنضال، على مغالبة التخلّف والاستبداد والانتصار عليهما.

عمل العالمان الكبيران في الحقل العام، حيث كان لهما حضورٌ مميّزٌ في حركة المجتمعِ السياسيّةِ والوطنيّة، غير أنّهما تجنّبا في مبادراتهما توظيفَ الدينِ في السياسة، إلّا عندما يتعلّقُ الأمرُ بالمصيرِ الوطنيِّ وما يطرحُهُ هذا المصير من تعبئةٍ وشحذٍ للهمم وصولًا إلى مناهضة الانتداب والاحتلال فعندها لا تردّدَ ولا مساومة. فلقد كانا في مواقفهما العامّة من رموز الصمود ومنارات المقاومة، في وقت آثر فيه كثيرون من رجال الدين الانكفاء والاحتماء بنظريّة الفصل بين الدين والسياسة.

وقد شاركا في العمليّة السياسيّةِ وتابعا القضايا العامّةَ بفعاليّة، فلم يقتصر دورهما على الإرشاد والتوجيه، بل تعدّى ذلك إلى ممارسات عمليّة تركت آثارها الإيجابيّة على حركة المجتمع.

 أمّا كتاباتُهما في الشؤون العامّةِ فاتّسمت بالطابع التحليليّ والحواريّ، ولم تسجن نفسها في النمط الإيديولوجي الجامد، بل كانت تخاطب العقل والمصلحةَ العامّة، لذلك التقى معهما كثيرون من أهل الفكر والسياسة الذين تحرّروا من النسق النمطيّ وتبيّنوا بالملموس أهميّة تلك الكتابات الثوريّة في استنهاض المجتمع وتوحيدِه على طريق الإصلاح ومقاومة الاستعمار. ولذلك لم يكن مستغربًا الدورُ المهمُّ الذي لعبه العلايلي في انطلاقة الحزب التقدميّ الاشتراكي والدورُ المهمُّ الذي لعبه فضل الله في انطلاقة حزب الله والمقاومة الإسلاميّة. لقد خضعا لصوت الضمير فعارضا السائدَ وقارعاه كلّما وجدا فيه تقليدًا متخلّفًا أو تكرارًا ممجوجًا أو انحرافًا ظاهرًا، فجسّدا في معارضتهما أعلى درجات الوعي بما هو موجود وأعلى درجات القلق على ما ينبغي أن يكون موجودًا .

 كان هاجسهما إصلاح أحوال المجتمع وتنزيه مؤسساته الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة؛ لذلك نلمس في كتاباتهما الحرص على الموروث وتبيان محاسنه والتشديد على ضرورته في الوقت الذي كانا في طليعة من تصدّى للممارسات المتخلّفة التي تُنسبُ إلى هذا التراث.

فحركة التجديد التي ساهما في إطلاقها وتزخيمها لم تكن من خارج التراث بل من داخله، ومتصلة بالرغبة العارمة لوضعه في سياقه الطبيعيّ، وبلورته وإشهاره على حقيقته؛ رسالةِ إيمانٍ وسلام ورحمة .

 وعلى هذا النحو، كان للإثنين فضلٌ كبيرٌ في تعميق النزعةِ الاستقلاليّةِ في الأمّة من دون الوقوع في شباك التعصّبِ أو تعظيمِ التراث. فعندما رأى البعض أنّ الحلَّ لمشكلاتنا يكمن في اقتفاء أثر الغرب، ورأى بعضٌ آخرُ أنّ الخلاصَ يكمن في الانسلاخ عن العصر والهجرةِ إلى الماضي، رفض كلاهما الالتحاقَ بالآخر أو الانسلاخ عن الذات، وتوجّها إلى التفاعل مع حقائق العصرِ العلميّةِ والتقنيةِ والتبصرِ والالتزامِ بالينابيع والسلف الصالح طارحيْنِ جانبًا نزعةَ النقلِ والتكرار، مقتنعيْنِ بأنّ الإسلامَ في عهد الانطلاق والعطاءِ الحضاريِّ كان محورَ عصرِهِ ومؤثّرًا فيه من خلال رؤيةٍ رحبةٍ جمعت بين الإيمانِ والعقلِ والعمل.

 فمن خلال تلك الرؤيةِ التي طلبت  العلم في الصين والهند، وبحثت عنه في ألواح الإغريق والسريان كما في كتب الفرس والمصريين القدماء، تمكّن الإسلام من استيعاب المعطيات، وتطوير العلوم، وتحديث التقنيّات وتحسين التنظيمات والتفوّق على محيطه بالجهد والاجتهاد، ممّا جعله مرجعًا للأمم وقاطرةً للحضارة الإنسانيّة.

 لقد اعتبر العلّامتان أنّ الحكمة تقضي باقتحام حلبة العلم الحديث والتمثّل بتلك الرؤية أو تلك المعادلة الذهبية فلا خوف ولا انبهار بل إقدامٌ وإقبالٌ على التعلّم والتكيّف والاستيعاب والعطاء من موقع المؤمن بدينه وأمّته وتراثه.

ان العالمين اللذين وقفا حياتهما للايمان والعلم والصالح العام وأبليا البلاء الحسن في ميادين الفقه والتعليم والثقافة تحولا الى علامتين بارزتين لا تخبو انوارهما في وجدان الناس وذاكرة الوطن .  لذلك يكون التقدير لهما بأحياء افكارهما ، واستلهام سيرتهما ، والاضاءة على مسيرتهما واستنهاض القوى الحية في مجتمعنا اللبناني ، كما العربي ، لمواجهة رياح الردة التي تصديا لها ، والتأكيد على جوهر الدين الذي تمسكا به ، ومجابهة كل اشكال الاحتلال والقمع والاستغلال كما فعلا طيلة حياتهما.

وكم نحن بحاجة اليوم في ظل العواصف المقيمة   بيننا وحولنا الى روح العروبة الحضارية التي مثلاها للتغلب على الانقسام والبغض والغلو .

 وكم نحن بحاجة الى العودة الى الينابيع الصافية التي حج اليها بأستمرار هذان الامامان الكريمان لابراز وجه الاسلام على حقيقته الانسانية بوجه كل الافتراءات والاتهامات التي تتوالى من اوساط لم ترع يوما كرامة الانسان وحقوق الشعوب ضمن برامج معدة سلفا لتشويه صورته المشرقة ودمغه بالتطرف والارهاب، مستفيدة من ممارسات فظيعة يقوم بها غلاة فاتهم ان الاسلام هو دين الرحمة واليسر والاعتدال.

 لن اقول لو كان العالمان حاضرين في هذا المقام ماذا كان عساهما ان يقولا .

 لن اقول ذلك لانهما حاضران بقوه في حياتنا العامة وفي كل الحوارات الجدية التي تجري في البلد ،  ولا اشك لحظة انهما يتألمان من حالة التمزق والتردي السائدة اليوم وقد اصبحت القاعدة تزييف الحقيقة القومية وانكار الحق الفلسطيني . والجنوح  الى ممالأة العدو .

 ولكني مع ذلك اخالهما ، كعادتهما ، يطالباننا بالانتباه الى البيت اللبناني الذي يكاد يتصدع بسبب التعصب والفساد و الانتباه الى البيت العربي الذي يكاد يفقد روحه  وقد اصبح مكسر عصا وميدانا لكل اشكال الاحتلال والاستيطان .