شريط الملتقى

مقالات

آراء العلايلي في الأحوال الشخصية ثروة أم ثورة فقهية

القاضي الشيخ محمد أبو زيد – رئيس المحكمة السنية في صيدا

(محاضرة ألقيت في الندوة التكريمية للعلامة الشيخ عبد الله العلايلي بدعوة من ملتقى الأديان والثقافات بتاريخ 28-2-2017)
مقدمة:
أصدر الشيخ عَبْدُ اللهِ عُثْمَان العَلَايلِيّ ( 1914- 1996) في عام 1978 كتابه "أين الخطأ" الذي ضمّنه فصولا تزخر بآرائه الفكرية والفقهية والأصولية.
صحيح أنّ كتاب "أين الخطأ" لا يُعد كتابا في الفقه والفتوى، فضلا عن أن يُعدّ كتابا قي أصول الفقه بالمعنى المتعارف عليه. لكنَّه بحق مزجٌ فذٌّ بين فكرٍ معاصر يتبناه المؤلف، وآراء له في بعض المسائل الفقهية والمباحث الأصولية التي يعرضها من خلال صفحات كتابه هذا. كما أنّ شخصية العلايلي اللغوي بقيت حاضرة بقوة في كتابه هذا إذ لم تخلُ صفحاته من لفتاته اللغويّة: كأن يذكر خطئا لغوِيّا شائعة ثمّ يبين الصواب فيه، أو يضبط اسما لعَلمٍ من الأعلام اضطرب السابقون في ضبطه، أو يتعقّب أخطاء أصحاب المعاجم والقواميس، أو يبيّن مصطلحات مستجدة في اللغة العربية وَضَعَهَا أو اشتقَّها لتكون في مقابل المصطلحات الأجنبيّة الشائعة... وهو في كلّ ذلك يعزو ويعلل ويوضّح.
أما المسائل عن الفقهية التي عالجها المؤلف على طريقته في كتابه هذا:
•    فبعضها يتصل بفقه المعاملات وما يتفرع عنه من مسائل تشكّل بمجموعها ما اصطُلِح عليه بـ"الاقتصاد الإسلامي"، فيجلّي العلايلي معالمه كاقتصادٍ تعاونيٍّ تكافليٍّ وتضامنيّ... ليفردا بعد ذلك بحثا مستقلا عن التعاملات المصرفية يريد من خلاله بيان ما إذا كانت عوائدها هي ربا محرم أم هي كسب حلال. كما يفرد بحثا آخر حول التأمين على النفس والمال بكافة صوره، وثالث حول عوائد الثروة النفطية باعتبارها ملكا للأمة بأسرها وليس فقط للدول التي عثر على النفط في باطن أراضيها.
•    وبعضها يتصل بالعقوبات والحدود وما يُعرف بالفقه الجنائي في الإسلام.
•    وبعضها يتصل بلحوم الهدي والأضاحي وكيفيَّة الإفادة منها حال وفرتها وتأكيده على حرمة إتلافها وهدرها.
•    وبعضها يتصل بإثبات رؤية الهلال لتحديد بدء شهر الصوم الصوم وانتهائه، فيتبنّى جواز إثبات دخول الأشهر القمرية اعتمادا على الحساب الفلكي.
•    أما على صعيد "فقه الأحوال الشخصية"، فقد تعرض العلايلي لمسألتين اثنتين: تتصل أولاهما بفقه المواريث، بينما تتصل الثانية بالأنكحة.
وبحثنا هذا ينحصر في الحديث عن هاتين المسألتين ومناقشة رأي العلايلي فيهما.

المسألة الأولى
إدخال المجتمع في عداد ورثة الميت
أورد العلايلي هذه المسألة في مقطع من صفحة واحدة عنوانه "الإرث الاجتماعي". أتى هذا المقطع في آخر فصل طويل نسبيا – إذ يقع في خمسة عشر صفحة [ص29 -ص43 ] وهو من أطول فصول الكتاب- عنوانه "رأي في المنهج الإقتصادي".
في المقطع المقتضب هذا، طرح العلايلي فكرة مفادها أنّ المجتمع يدخل في جملة مستحقي إرث المتوفى، إذ للمجتمع نصيب مفروض شأنه شأن سائر أصحاب الفروض.
دعّم العلايلي رأيه هذا بأربعة أحاديث، ثلاثة منها واردة في موضوع الوصيّة، والرابع وارد في موضوع ميراث مَن تُوفِّي ولا وارث له. وهاكم نصّ هذه الأحاديث:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة فى أعمالكم".
الثاني: حديث سعد بن أبي وقاص الذي يقول فيه: "جاءني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مالٍ ولا يرثني إلا ابنة ٌ لي أفأتصدق بثلثي مالي قال لا قال قلت فالشطر يا رسول الله قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير أو كبير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة ً يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة ً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك..."
الثالث: عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ مَوْلًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَّ مِنْ عَذْقِ نَخْلَةٍ، فَمَاتَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " هَلْ لَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَحِمٍ؟" قَالُوا: لَا. قَالَ: "أَعْطُوا مِيرَاثَهُ بَعْضَ أَهْلِ قَرْيَتِهِ".
الرابع: حديث: "لا وصية لوارث."
عالج العلايلي هذه الأحاديث بإيجاز وخلص إلى ما يلي:
1/ ترجّح لديه أنّ الوصيّة ليست "هبة" مندوبة، بل هي :"أَدْخَلُ في بابِ التوريث منها في باب الهبة" ص42.
2/ ترجّح لديه أنّ الوصية ليست "مستحبة" كما نصّ عامة الفقهاء، بل هي عنده "واجبة". واستدل على إيجابها بأنّ: "الحثّ التأكيدي بمنزلة الأمر."(ص41).
3/ تبنّى العلايلي أنّ مقدار الوصية -الواجبة عنده باعتبارها نصيبا مفروضا للمجتمع-  هو "الثلث فرضا".
4/ واعتبر أنّ المجتمع هو من يستحق هذا النصيب المفروض. وبالتالي يكون المجتمع داخلا في جملة أصحاب الفروض. ص42
وختم العلايلي نظريَّته هذه، بقوله: "فإذا ذهبتَ تَحْصِرُ إرثا، وجب أن تضيف المجتمع إلى أصحاب الفروض... فيقال: توفي عن زوجة أبناء ومجتمع..."ص42
لم يشكّل رأيّ العلايلي هذا مادة جدل أو أخذ وردّ وهجوم وهجوم مضاد بالمستوى الذي حصل في مسألة "زواج المسلمة من كتابي" التي قال بها. وهو أمر حَرَمَنا من شهود نقاش أو حوار أو جدل كان من شأنه أن يغني البحث في هذه الفكرة.
لكني في هذه المقام أستسمح العلايلي عذرا فأقول مناقشا ومستفسرا:
1/ بنى العلايلي رأيه بإيجاب الوصية مستندا إلى مقولة: "الحث التأكيدي بمنزلة الأمر" وذكر أنّ هذه المقولة هي من أهم الكليات الفقهية المقررة. لكنه لم يعز هذه المقولة إلى قائلها أو إلى مصدرها. مكتفيا بإيرادها كمسلّمة من المسلمات، علما أنها لا تسلم من نقد ومعارضة.
2/ رجّح العلايلي أن الوصية هي "توريث" لا "هبة"، مكتفيا بالقول: "إنّ الأصح والأقعدَ عندي قول من ذهب إلى أنها من باب التوريث". ومجددا لم يذكر أصحاب هذا القول ولا أدلتهم ولا مسوّغ ترجيحه لرأيهم.
3/ رغم أنّ الحديث النبوي الذي أورده العلايلي صرّح بأن "الثلث كثير"، فإن العلايلي حدد سهم المجتمع بأنه "الثلث" وجوبا. دون أن يبين سبب تبنِّيه للثلث –وهو كثير كما في نصّ الحديث- مع إمكان أن يكون سهم المجتمع أقل من ذلك، يكون الربع أو الثمن أو السدس.
4/ رغم أنّ أصحاب الفروض الذين هم أقرب الناس إلى الميت تبقى فروضهم عرضة لحجب نقصان كما في بعض حالات الأم والزوجة... أو حتى حجب حرمان كما في بعض حالات الأخت الشقيقة والجدة... لم يذكر العلايلي ما إذا كان الثلث المفروض للمجتمع يطرا عليه الحجب، وتفصيل هذه الحالات إن وجدت؟
5/ لم يذكر العلايلي ما ينبغي فعله إذا استغرقت الأنصبة المفروضة التركية، كأن يتوفى عن ابنتين وأب وأم. هل يُزاحم المجتمع أصحاب الفروض فتعول المسألة تأمينا لنصيب المجتمع ولو أدى ذلك إلى إنقاص أنصبة ذوي المتوفى؟ أو تبقى التركة لأصحاب الفروض الذين ذكرهم القرآن، ويستثنى "فرض" المجتمع باعتباره مجرد اجتهاد؟
6/ ثمّ من هو المجتمع؟ مَن يمثله حقيقة؟ أهي السلطة الحاكمة؟ أم البلديات؟ أم الأوقاف؟ أم الجمعيات الأهلية؟... وماذا لو تزاحم هؤلاء؟.
7/ ثمّ ماذا عن مسلم تُوفِّي في بلد غير إسلامي، حيث لا جالية إسلامية أو جمعيات ومؤسسات إسلامية... هل يكون المجتمع الذي يعيش فيه مستحقا لثلث ماله؟ أم يُطبَّق على المجتمع ما يطبق على الأفراد لجهة عدم التوريث لمانع اختلاف الدين؟
8/ ولمّا كانت الدولة تشارك الورثة أصلا في ميراثهم عن طريق فرض الرسوم والضرائب على التركات. فهل ستعطى إلى جانب ذلك كلّه الثلث أيضا أم ستُحْسم الضرائب والمصاريف من نصيبها المفروض؟ وما هي آلية ذلك؟...
وقبل ذلك كلّه، ولجهة المنهج الأصولي الذي يتبنّاه العلايلي:
ألا يُعدُّ اعتبار العلايلي لـ "ثلث الوصية" -الوارد في حديث آحاد- "فرضا" مستجدَّا يُضاف إلى جملة الفروض التي نصّ عليها القرآن، أمرا يناقض المنهج الأصولي الذي يتبناه؟ إذ هو قد صرّح مرارا أنّ مرجعه القرآن، وما تواتر أو اشتهر من الأحاديث. وليس الأمر كذلك مع الأحاديث التي ذكرها.
هذا فضلا عن عدم دلالة هذه الأحاديث صراحة على ما توصل إليه اجتهاد العلايلي.
ختاما:
حدثني القاضي المستشار الشيخ عبد الرحمن الحلو، فنقل عن الشيخ العلايلي أنه لم يكن شديد التمسك بهذه الفتوى، وإنما طرحها لأجل تحريك الماء الراكد، وإثارة الفكر الخامد، وتحفيذ الاجتهاد.
وإني أميل إلى تقبّل ذلك سيّما وأنّ العلايلي قد طرح المسألة بشكل مقتضب فأتت كفرع تكميلي ضمن مبحث أعمٍّ وأشمل حاول من خلاله رسم المعالم العامة للاقتصاد الإسلامي.
ولكي أكون إيجابيا في قراءتي لرأي العلايلي هذا، فإني أرى فيه مشروع مصالحة بين الفرد والمجتمع أو المواطن والدولة. وأرى فيه بابا للُّحْمَة والائتلاف المجتمعي بين الجزء والكلّ. وإن كان رأيه هذا أوهن من أن يؤسَّس عليه "فتوى فقهية" بالمعنى الاصطلاحي في ضوء التساؤلات التي أثرتها آنفا. والله أعلم.

المسألة الثانية
زواج المسلمة من كتابيٍّ
أورد العلايلي هذه المسألة في كتابه "أين الخطأ"، إذ سطّرها في فصل من سبع صفحات [ص113 – ص120]  جعله تحت عنوان "أطوطميون أنتم أم فقهاء".
قدّم العلايلي لرأيه في جواز زواج المسلمة من كتابيٍّ بإشارات إلى ما يشهده المجتمع اللبنانية من حين إلى حين من جدل حاد حول الزواج المختلط.
إذا فتصدِّي العلايلي لبحث هذه المسألة الفقهية أتى في سياق اجتماعي ووطني، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "وإن تكُ [أي هذه المسألة] فقهيَّة، فإنها تؤول بدورها إلى مشكلة وطنية"(ص114)
يؤسّس العلايلي رأيه في هذه المسألة على ما يلي( ):
1/ إنّ زواج المسلمة من كتابيٍّ مسألة بسيطة. وهي جزيئة، واجتهادية.(113)
2/ إنّ الإجماع الحاصل في هذه المسألة هو إجماع متأخر. وهذا النوع من ال
إجماع ينبغي -كما يرى العلايلي- أن يكون له مستندٌ من دليل قطعي.(ص114)
3/ إنّ الآيات الواردة في: سورة البقرة (221)، الممتحنة (10)، المائدة (5)، غير قاطعة في تحريم زواج المسلمة من كتابي. تأسيسا على اعتبار العلايلي أن لفظي "مشرك" و"كافر" لا يشملان "الكتابي".
4/ إنّ لفظ "خير" الوارد في قوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أتى لبيان ما هو الأفضل، دون أن يعني ذلك حرمة زواج المسلمة من كتابي.
5/ إن أدلة المانعين لا تخلو من احتمال، وهو أمر يجعلها ساقطة لجهة الاستدلال بها. (ص115)
6/ الآية 10 من سورة الممتحنة خاصة باللَّوات فررن بدينهن بسبب الاضطهاد. فلا يجوز إرجاعهن إلى الكفار.
7/ وجوب حصر النقاش في آيات سورة المائدة كونها تتحدث عن الكتابيين حصرا. (ص116)
8/ استفاد العلايلي مما ذكره ابن رشد في كتاب البيوع ثمّ قام بعد ذلك بتطبيقه على الأنكحة(ص116) ( )، ونصّ كلام ابن رشد: "نحن نذكر أولا "المنطوق به" في الشرع وما يتعلق به من الفقه، ثم نذكر بعد ذلك من "المسكوت عنه" ما شهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار ليكون كالقانون في نفس الفقه أعني في رد الفروع إلى الأصول"( ).
9/ الأحاديث الواردة في هذه المسألة هي آحاد لا يَحتج العلايلي بها. (ص116)
10/ أحاديث الأفعال الواردة في هذه المسألة هي -شأن سائر أحاديث الأفعال- محل نظر عند الأصوليين لجهة دلالتها.(ص116)
ختم العلايلي رأيه في هذه المسألة بالقول: "وأختم هذا الفصل ببيان أنَّ الفرق كبير بين الاباحة حيث لا مندوحة، وبين الورع... أما ما يقتضي الورع فشيء آخر، يتصل بالطمأنينة النفسية والراحة القلبية..." (ص119- 120).
شكّل رأي العلايلي في هذه المسألة مادة لجدل حادّ في حياته، ولم ينته رغم موت الرجل، بل لا يزال مستمرا. وأغلب ظني أنه بات أكثر حدّة بعد مماته.
لن أستعرض كلام الذين ردوا على العلايلي، ولن أطيل في بيان حججهم وأدلتهم التي شكلت أساس ردودهم. وحسبي أن أشير إلى أنّ أرصنها وأوفاها وهو بحث كتبه القاضي المستشار فيصل مولوي رحمه الله عام 1996 –أي بعد وفاة العلايلي- وضمّنه ردا على الشيخ عبد الله العلايلي حول هذه المسألة( ).
لقد اعتصم المستشار فيصل مولوي بالإجماع، واستمسك بالسنن الصحاح، وناقش العلايلي في تفسيره للآيات وفي استدلالاته واستنباطاته... ليخلص إلى ردّ هذه فتواه هذه.
لا أريد أن أطيل البحث في ذلك( ).  لكني أستسمح المستشار المولوي عذرا فأقول:
إنّ رد المولوي على العلايلي هو من أجود الردود، لكنّه مؤسس على جملة أصول لا يقول بها العلايلي.
فالإجماع الذي اعتصم به المولوي هو إجماع متأخر وهو ليس بحجة عند العلايلي إلا أن يقترن بدليل قطعي. وليس بخاف أن العلايلي استشهد في في عدة مواضع كتابه "أين الخطأ" بابن حزم الظاهري ذاكر كتابه "نقد مراتب الإجماع".
أما الأحاديث الصحاح التي استمسك بها المولوي، فهي أحاديث الآحاد. وهي بالنسبة للعلايلي تصلح للاستئناس وليس لتأسيس حكم، كونه يأخذ بالقرآن والسنة المتواترة أو المشهورة. كما أن دلالة السنّة العملية عنده محل نظر. وكلّ ذلك قد صرّح به العلايلي في كتابه "أين الخطأ".
وبقي الجدل الأكبر حول تفسير آيات القرآن التي ورد فيها ما يصلح للاستدلال على هذه المسألة. فكانت الآيات محل نزاع حيث أجْهَد كلّ من العلايلي والمولوي نفسيهما بتوجيهها وتفسيرها بما يتفق مع ما ذهب كلّ منهما إليه. ولا يخفى أن القرآن حمال أوجه.
بعيدا عن الجدل –الحادّ أو الهادئ- والنقاش -العلمي أو غير العلمي- الذي جوبه به العلايلي. أجد أن الذين ردّوا عليه جانبوا الصواب في منهجية ردودهم. فقد حاكموا العلايلي وفق أصولهم التي لا يُسلِّم لهم بها. ولو أنّ القوم تمعّنوا في قراءة كتابه، واجتهدوا في رسم خارطة المنهج الأصولي الذي ارتضاه لنفسه- بناء على جملة اختياراته الأصولية- وعملوا على تحريره وبيان معالمه( )، ثمّ أسسوا ردودهم على ذلك، لكان بالإمكان أن يصلوا إلى ردّ فتواه بناء على أصوله التي يقول بها. ولكانت ردودهم حجة عليه كونها مؤسسة على ما يقول به من قواعد وأصول.
ولو شئت خوض غمار هذه التجربة –وإن كان هذا المقام لا يناسبه التوسع في ذلك- لقلت:
يرى العلايلي أنّ مسائل الفروع تشكل مساحة رحبة للخلاف الفقهي، وأن أيّ رأي فقهي ينبغي أن يكون محل اعتبار سواء تمّ العمل به أم لا، يقول العلايلي: "...التسليم بكل ما قالت به المدارس الفقهية، على اختلافها وتناكرها، حتى الضعيف فيها، وبقطع النظر عن أدلتها، واختزانها في مدونة منسقة حسب الأبواب كـ "مجموعة جوستنيان". وأعني بكل ما أعطت المدارس: الإباضية والزيدية والجعفرية والسنية، من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وأوزاعية وظاهرية، ومن قبلها مدارس الصحابة فالتابعين، فتابعي التابعين إلخ."( ).
ولإثبات سلامة وجدوى ذلك يستشهد العلايلي بكلام الإمام الخطابي الذي ينقله بنصه، فيقول: "قال الخطابي: والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام أحدها في اثبات الصانع ووحدانيته وانكار ذلك كفر والثاني في صفاته ومشيئته وانكارها بدعة والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة..."( ).
ويرى العلايلي أيضا أنّه بعد التسليم باعتبار كلّ رأي فقهي –علمي وموضوعي- فإنّ: ظروف الزمان والمكان والحال هي التي تحكم ترجيح الأخذ بهذا الرأي أو ذاك، مع إمكانية الأخذ برأي آخر كلّما تغيرت الظروف والملابسات، يقول العلايلي: "ويتأسس على هذا المقترح، أنه في حال ما إذا واجهتنا مشكلة من مشاكل اليوم، أو نازلة من النوازل نأخذ الحلّ من هذا المنجم الفقهي أو الرَّبيدة الجامعة الحافلة بقطع النظر عن قائله أو دليله وبتغير الظرف يتغير الحكم المعتمد... استنادا إلى أن فقيها قال به وأنّ الظرف اقتضاه. فالمرجّح إذا هو الظرف. ما دمنا قد سلمنا بأقوالهم جميعا وقبلناها جميعا..." ( ).
ولكي لا يتكون التخيُّر بين الأقوال تبعا للهوى، فإنّ العلايلي يضبط الاختيارات الفقهية باحتياط الفقيه –ومن ورائه من يقلِّدُه- صيانة لأمر دينه، يقول العلايلي: "...وذلك يجعل هذه الثروة الفقهية منجما لكل ما يَجِدُّ ويَحْدُث، على نحو ما أجمله الإمام أبو عبد الله النجيبي "مذهبي في الإلهيات التسليم، وفي الفروع الأخذ بالأحوط"( ).
في ضوء ما تقدم أقول:
لو سلمنا جدلا بأنّ اجتهاد العلايلي في مسألة "جواز زواج المسلمة من كتابيٍّ" جرى قبوله من أهل العلم باعتباره اجتهادا معتبرا -وإن كان مرجوحا.
فهل هذا الاجتهاد صالح للتطبيق؟
إذا كان العلايلي يقول بوجوب الاحتياط في الفروع صيانة للدين- وفق النقل السابق- فينبغي بحسب كلامه الأخذ بالراجح وترك قوله المرجوح احتياطا للدين وصيانة للأعراض. ما يعني عمليا بقاء قوله مجرد نظرية لا حظّ لها من التطبيق.
ولعل العلايلي قد أومأ إلى ذلك بقوله: "وأختم هذا الفصل ببيان أن الفرق كبير بين الاباحة حيث لا مندوحة وبين الورع... أما ما يقتضي الورع فشيء آخر، يتصل بالطمأنينة النفسية والراحة القلبية..." ( ).
وإذا كان العلايلي يرى بأنّ الظروف والملابسات لها دور في توجيه الفقيه إلى اختار الفتوى المناسبة. فإنّ واقع الزواج المختلط بين مسلمٍ وكتابيةٍ يعتريه من الخطر والمحاذير الشيء الكثير أقلها التشويش الذي يطال عقيدة الأولاد. وخير من يُسأل عن ذلك قضاة المحاكم الشرعية.
أما زواج المسلمة من كتابي، فالخطر فيه أكبر لأنه يطال الزوجة نفسها وأولادها على المستوى العقائدي والسلوكي، سيَّما ونحن نعيش في مجتمع ذكوري، للرجل فيه مزيد سطوة ومهابة وتأثير على أهل بيته. وخير من يُسأل عن ذلك قضاة المحاكم الشرعية أيضا.
إذا فـ "ظروف الزمان والمكان والحال" توجب عدم الأخذ بهذه الفتوى استنادا إلى ما يقول به العلايلي نفسه.


أمر إضافي:
إذا كان القضاء الشرعي، وعلماء الشريعة يرفضون إجراء هذا الزواج وتتميم عقده وتوثيقه أصولا [وهو أمر شكلي لكنه ضروري لصيانة الحقوق وضمان تسجيل الأولاد]، فأين تراه سيجرى؟
إن قيل "مدنيا"، فالعلايلي نفسه ضدّ الزواج المدني، حيث يقول: "ولا يتوهمنّ متوهم أنني في سياق دعوة جديدة إلى "عقد مدني""( ).
وإنّ قيل دينيا –وليس في الإسلام زواج ديني بل هو عقد شرعي داخل في جملة العقود مع بعض الاستثناءات نظرا لخصوصيته- فستكون الكنيسة هي المكان الوحيد لذلك. ولا يخفى أن الزواج الكنسي عند القوم هو شأن ديني عقائدي إيماني بامتياز. وينتج عن الأخذ بفتوى العلايلي هذه، ومن بعده الدكتور حسن الترابي، إلجاء المسلمة –التي قررت الأخذ بهذه الفتوى- إلى قبول إجراء زواجها كنسيّا. وهو ما حصل فعلا وقد عاينتُ شخصيا بعض هذه الحالات. وثمة حالات ذكرتْها بعض الصحف، هاكم واحدة منها:
"وسط دهشة أهالي ثالث أكبر مدينة في شرق السودان (القضارف) عقدت مراسم زواج امرأة مسلمة من مسيحي في العلن، وهذه الواقعة هي أول رد فعل لفتوى الدكتور حسن الترابي- الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي السوداني المعارض- بجواز زواج المرأة المسلمة من رجل مسيحي، وجرت مراسم زواج الفتاة السودانية من الرجل الأثيوبي الجنسية على مدى ساعات في إحدى كنائس مدينة القضارف حيث منزل أهل الفتاة، ونقل شهود عيان عن الفتاة قولها: "إنها سعيدة بزواجها من عريسها المسيحي ومقتنعة بالفكرة وأنها تستند إلى فتوى الدكتور الترابي في هذا الخصوص" وذكر هؤلاء الشهود أن أهل الفتاة منقسمون على الخطوة التي أقدمت عليها العروس، فهناك من أيد وهناك من عارض..". ( ).
 ولو أردت التوسع لقلت: ومشاركت المرأة المسلمة في طقوس وشعائر كنسيَّة ذات بعد عقائدي إيماني صرف فيه تناقض صارخ الإسلام، ومعلوم أنّ في مثل هذه الحالات ستُرمى المرأة المسلمة بالردة –ولا يبعد أن تُسول للبعض نفسه أن يعلن هدر دم هذه المرأة تأسيسا على القول بردتها... كما ينبغي أن لا نغفل الإنقسام والتشرذم الذي سيزلزل كيان عائلة هذه المرأة بين موافق ومعارض...
فكلّ هذه الملابسات –تأسيسا على كلام العلايلي السابق- من شأنها حمل أيّ عاقل على إهمال فتواه هذه.
عود على بدء:
هل آراء العلايلي في الأحوال الشخصية ثروة فقهية أم ثورة فقهية؟
إذا كانت الثروة تعني الكثرة والوفرة، فإنّه لمن الصعب جدا أن يوصف اجتهاد العلايلي في مسألتين اثنتين من مسائل الأحوال الشخصية بالثروة الفقهية. ويتأكّد ذلك في ضوء عدم اكتراث الأكثرين لفتواه في موضوع "توريث المجتمع" وحصرهم مناقشاتهم وردودهم في الرد على مقولته بجواز "زواج المسلم من كتابي". وبذلك يكون الأثر الذي أحدثه العلايلي في فضاء الأحوال الشخصية عمليا منحصرٌ في مسألة واحدة فقط.
غير أني أجد في رأيه في المسألتين الآنفتي الذكر شرارة ثورة فقهية، حيث إنه خرج على كل ما هو سائد، وحاول أن يحرك بطرحَيْه الماء الراكدـ ويؤجج الفكر الخامد، ليبدا أصحابه بالتفكير والاجتهاد.
لكن شرارة ثورة العلايلي هذه لم تستعر، ولم تتوهج. وأزعم أنّ ثلاثة فئات من الناس كانوا السبب في ذلك. كما أزعم أنّهم أحاطوا العلايلي بظلمٍ مثلّث الأضلع:
أما الظلم الأول: فقد وقع عليه من فئة العَلْمانيين (أو "الحِّلَّانيِّين" بحسب وضع العلايلي ص117). فحين استعر الجدل في الساحة اللبنانية حول مشروع الزواج المدني -الذي من جملة لوازمه إجازة الزواج المختلط مطلقا، وبالتالي جواز زواج المسلمة من غير المسلم -كتابيا كان أو غير كتابي- بادر بعض أنصاره هذا القانون إلى استحضار رأي العلايلي للتترس به في وجه رافضي المشروع من علماء الدين المسلمين. وفي هذا السياق عمد العَلْمَانِيُّون [بفتح العين بحسب ضبط العلايلي لهذا المصطلح] إلى انتزاع الشيخ العلايلي من بيئته الدينية ذات الجذور الأزهرية، وتقديمه من خلال كتاباتهم ومقالاتهم الصحفية كمثالٍ للشيخ الليبرالي التقدّمي العَلْماني المتماهي مع طروحاتهم وهو ما أدى إلى خسارة العلايلي لكثير من رصيده الديني والعلمي في الأوساط المتدينة- ولم يأبه العَلْمانيون هؤلاء بضياع مكانة العلايلي وسط قومه جراء موجة العداء التي تولدت ضده من المتدينين بسبب كتاباتهم تلك التي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه نصري الصايغ تحت عنوان: "أدين بعلْمانية الشيخ عبد الله العلالي"( )، وما كتبته سوسن الأبطح تحت بعنوان: "عبد الله العلايلي.. العلاّمة الذي يستغيث به المتنورون بعد أن همشه معاصروه"( ).
غير أنّ هؤلاء العَلْمانيين أخفوا جملة حقائق تتعلق بأمور يقولون بها، بينما العلايلي برئ منها:
فمشروع الزواج المدني المنادى به يجيز الزواج المختلط مطلقا. ويدخل في ذلك زواج المسلمة من الكتابي وغير الكتابي، بل وزواج المسلم من الكتابية غير الكتابية أيضا. ويقدّم مناصروا هذا المشروع هذا الأمر على أنه حلّ فذّ للمعضلة الطائفية. وقد استعملوا اسم العلايلي في سياق للترويج له. مغفلين جملة أمور يناقضهم العلايلي فيها:
1/ فالعلايلي يرفض الزواج المختلط على إطلاقه، ويحصره بزواج المسلم من كتابية -موافقا جمهور الفقهاء- ويجعل وزواج المسلمة من الكتابي مسألة اجتهادية فرعية يرى جوازها، ومع ذلك يومئ إلى التورع عن الإقدام هكذا أمر، إذ يقول: "وأختم هذا الفصل ببيان أن الفرق كبير بين الاباحة حيث لا مندوحة وبين الورع... أما ما يقتضي الورع فشيء آخر، يتصل بالطمأنينة النفسية والراحة القلبية... (119-120).
2/ كما يرفض العلايلي الزواج المدني جملة وتفصيلا، إذ يقول: "ولا يتوهمنّ متوهم أنني في سياق دعوة جديدة إلى "عقد مدني""(ص117)
3/ ويرفض العلايلي كذلك أن يكون شخصه أو فكره مطية للعَلْمانية، إذ يقول: "كما أتمنى على القارئ أن يحسن الظن بي فلا يداخله أو يخامره أني أمهد السبيل إلى (الحِلَّانِيَّة=اللايسسم) كما أضع لها، والعَلْمانية كما هو الشائع" (ص117).
أما الظلم الثاني، فقد وقع عليه من فئة المتدينين الذين لم يستجيبوا للطلب الذي توجه به العلايلي من قرّائه راجيا منهم أن: "يحسنوا الظن" به (ص117).
لقد عمد بعض الكتاب الإسلاميين إلى قراءة كلام الرجل مستصحبين الكثير من سوء الظن –ولعل ذلك ناشئ عن تبني العلمانيين للعلايلي وتجيير جهوده لصالحهم مغفلين تمايزه عنهم- ثمّ بعد ذلك سطّر بعض الإسلاميين في حق العلايلي كلاما مؤذيا أترفّع عن إيراد نصّه مكتفيا بالإحالة إليه.
نقل الكاتب سليمان بن صالح الخراشي في كتاب بعنوان "نظرات شرعية في فكر منحرف" نقدا لاذعا -لا يخلوا من نيل وتجريح- للعلايلي نقله عن( ):
1/ الدكتور مفرح القوسي في كتاب له بعنوان: "الموقف المعاصر من المنهج السلفي"(ص234-238).
2/ الدكتور أحمد أبو عامر في مقال له نشرته مجلة العربية في صفر 1412ه
3/ عبد الله الطويل في كتاب له بعنوان "منهج التيسير المعاصر".
4/ سيد بن حسين بن عبد الله العفاني في كتاب له بعنوان "أعلام وأقزام في ميزان الإسلام".
وكان حريا بهؤلاء الكتّاب ومن شايعهم أن يستجيبوا لطلب العلايلي بإحسان الظن به. سيما وأنه أعلن صراحة -في كتابه "أين الخطأ"- مدى اعتزازه بالشريعة الإسلامية، ويقينه بعظمتها وسموّها. بل إنه قد نصّ أن على المسلمين وحتى غير المسلمين بحاجة إلى أن يعالجوا أمر دنياهم وفق شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
وأحبُّ في هذا المقام أن أنقل بعضا من كلام العلايلي في كتابه "أين الخطأ" حول رأيه بالشريعة الإسلامية. يقول العلايلي:
"وهذه الشريعة العمليّة، التي لا يخالجني ريب في أنها القمينة [أي: الجديرة] برمّ ما يفري عالم اليوم من سقم عياء ويستبد به من حّمى برحاء." ص16
"أجل، ما ظنك بمثلها شريعة عمليّة هي: كلّ صلاح في فن الحياة، لكل الأخطاء في سعي الأحياء." ص 25.  
"ولكنني كنت مؤمنا –وأنا اليوم أكثر إيمانا مني بالأمس بحقيقة كلما زادت الأزمات تعقيدا واستحكاما- وهي: لأيّة جماعة من البشر الحرية في أن لا تتصل بالسماء من طريق محمد {لا إكراه في الدين} (البقرة: 256) ولكنّهم جميعا في حاجة إلى الاتصال بالأرض من طريقه وعلى مناهجه." ص30.
أما الظلم الثالث: فقد وقع على العلايلي من طلابه ومريديه وأنصار فكره ومنهجه، إذ لم يعمدوا إلى خدمة كتابه "أين الخطأ" شرحا وتحقيقا. كما لم يبذلوا الجهد المطلوب في خدمة اختيارات شيخهم الفقهية والأصولية الواردة في هذا الكتاب توجيها وتوثيقا، بل ونقدا وتمحيصا. فتركت آراء الرجل سائبة يتخطّفها حاقد أو مُغرض.
خاتمة:
جميل هو الرأي الصواب، حين يكون لأجل التوجيه والتقويم والإرشاد والتعليم. وجميل هو الرأي الخطأ حين يكون سببا لاستثارة النفوس، شحذ الهمم، تحفيز المبادرة لردّه بموضوعية علميّة راقية وبيان الصواب الذي يقابله. وأرى أن جهود العلايلي -في صوابه وخطئه- لم تخرج عن هذا النطاق.
أدعو الله أن يثيب العلايلي على الصواب الذي وُفّق إليه وأن ينفعنا به. وأسأله سبحانه أن يَغفر للعلايلي خطأه، وأن يعصمنا من الوقع فيه. هو ولي ذلك والقادر عليه.