شريط الملتقى

مقالات

جولة في آراء العلامة الشيخ عبدالله العلايلي

الدكتور عبد الله فضل الله
رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية – الفرع الأول

- (بحث ألقي في مؤتمر العلايلي بتاريخ 28 شباط 2017 بدعوة من ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار)


 هذا اللقاء العلمي الكبير لتكريم العلامة الشيخ عبد الله العلايلي، رائد التجديد والحوار والتقريب. ومَن أكرم وأسخى من مؤسستين علميتين إيمانيتين، هادفتين إلى السناء والسنا، إلى صوابيتها، والإنسان العربي، على الأقل، وبكل أطيافه ومشاربه إلى إنسانيته الصافية، إلى خالقه الواحد الذي لا إله غيره، إلى الوحدة والصمود والعمل إزاء الاخطار التي تغزو هذه الامة، تهاجم تراثها وتاريخها العابق بالمجد وحضارتها السامقة الثرية.
وها هما يقفان بإجلال واحترام وتقدير إزاء عالم مفكر نابغ موحد، مقاوم للجهل والتخلف والتعصب والهوى. ويجمعان إليه نخبة من المفكرين والباحثين، ولهم السبق في ميادين العلم والسهر والعمل لإيضاح حقيقة الاعتدال بالحجة والبرهان.
عبد الله عثمان العلايلي، ولد في بيروت سنة 1914م، تلقى علومه الابتدائية الاولى في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية سنة 1919م، سافر إلى مصر عام 1923م لمتابعة تحصيله العلمي في الأزهر الشريف، كما درس الحقوق في جامعة فؤاد الأول، وتخرج أواخر الثلاثينيات ليعود إلى بيروت في عام 1940.
فقيه جريء لغوي وموسوعي مؤرخ وكاتب سيرة أديب وخطيب... لم يدع حقلاً معرفياُ إلا خاضه متطلعاً إلى التطور والتجديد ... شيخ مفكر، لم تفته حلقة علم أو ندوة إلا وأدلى بدلوه المتعلق بقيم الفكر النير.
إنه أحد أركان النهضة الأدبية واللغوية والفلسفية والاجتماعية والفقهية، وأحد من أفذاذ الدهر يشار إليه بكونه فرقد الضاد وإمام محراب اللغة وكاهن سرها.
شاعر مبدع نسج قصائده من كل القضايا الإنسانية الخالدة، أحب وتغزل وهو يعبر عن لواعجه الهائمة.
وعى العلايلي الزمن بكل ما أوتي من نباهة وجرأة وعقلانية... انساقت إليه أحداث العصر، فعاشها وفصلها وحللها وعالجها بعيداً عن السطحية والغوغائية، بكل ما في الفكر من طاقات التقدم والتجديد الذي يرفض كل أشكال التقوقع والركود. هو مع التطور المادي الذي يخدم الإنسان مع العالمية أي العالم الواحد، ومع هدم كل الموروثات القديمة التي عفا عليها الزمن، انطلق من القضية الوطنية إلى القومية فالعالمية، متعالياً على كل الحساسيات، وثائراً ضد كل ما يدعو إلى التفرقة والتمييز.
العلايلي أديب قدمت لنا نصوصه أفكاراً عميقة مبتكرة بلغة أدبية مميزة، أقامت علاقة ساحرة ما بين الفكر والأدب، فأعطى الفكر قيمة أدبية كبيرة، ومنح الأدب مستوى عالياً. فاللغة كما قال العلايلي: "أحد وجهي الفكر، فإذا لم تكن لنا لغة تامة صحيحة، فلن يكون لنا فكر تام صحيح" ولقد أثبت العلايلي قدرة العربية على التعبير عن فكر العصر في أنحائه كافة.
لذلك لم يتوقف نبض الحرف في لغته، فكانت إلى جزالتها سائغة ومحببة، فلقد طوع أدبه ليحاكي هواجس الناس ويدغدغ مشاعرهم، ويستجيش عواطفهم، في محاولة لإلغاء المسافة بين فن الأدب وإنسانه.
رفض العلايلي الحدود والقيود على الأدب كما الشعر، دعا إلى تحرير الأدب والشعر واللغة والبيان من القيود، وفك أساره من كوابل التحميل والتثقيل في نزعة جديدة كادت أن تحدث انقلاباً نوعياً في المدارس الادبية.
الحداثة في خطاب العلايلي وفضل الله
لقد حث مفكرنا العلايلي على وجوب الانعتاق من نير العادات والتقاليد التي يرزح المجتمع الإسلامي تحتها، وهي مغالط صيرها التاريخ عقائد، ونادى بفضل ضرورة فصل المعرفة عن الخرافة، والدين عن الشعوذة، وكانت نظرته إلى الدين نظرة حضارية على أنه رسالة إصلاح لا تقليد، رسالة علم لا جهل وتعتيم.
فالخلاف بالنسبة إليه ليس بين العلم والدين بل بين العمل ورجال الدين الذين فهموا النظم الإسلامية وطبقوها على كثير من المغالطات.
ولقد نظر العلايلي إلى القرآن بوصفه شريعة عملية قابلة للتكيف حسب الموجب أو المقتضى ونصاً منفتحاً على تغير المجتمع في أنماط الفكر ومنهج السلوك، فلا قوالب جامدة وأنماط ثابتة.
ويقول السيد فضل الله في هذا الصدد: "لقد انطلق القرآن من فكرة رفض التقليد للعادات الموروثة وتركيز قيم العقل أساس من اسس المعرفة الحقة واعتبار الحجة هي الأساس للايمان بالحقيقة"، لقد بدأ السيد فضل الله بوضع ركائز الحداثة يوم كان  طالب علم في حوزة النجف إذ وجد أن المنهج الحوزوي يختزن بعض التعقيدات ويعاني من سلبيات متنوعة ولعل أبرزها أنه يحاكي بعض إشكاليات العصور السالفة المعتمدة منذ مئات السنين.
وكما أراد العلايلي أراد فضل الله "تقويم العلاقة بين الإسلام والشباب عبر تصحيح العلاقة بينهم وبين علماء الدين. ولقد اعتبر "الحوار نقطة انطلاق لإمكانات أن تتوحد في فكر أو في بعض مواقع الفكر، وأن تتوحد في مشروع وفي بعض المشروع". يسعى الإسلام إلى بناء علاقة حوارية مع أهل الكتاب وانطلاقا من هذه العلاقة يوجه السيد دعوة إلى الحوار للمسيحيين اللبنانيين على أساس القضية الأساسية: "الإيمان بالله الواحد".
ويقول يوحنا كباني: " نحن مع السيد فضل الله في ضرورة التفاهم حول المواقع المشتركة".
ويقول: "لقد استشهد البطريرك الرابع هزيم  في عظة رأس السنة سنة 1992 في دمشق بكلام للعلامة فضل الله وسط الكنيسة وهذا ما لم يحدث منذ الفين سنة".
آراء العلايلي في الأحوال الشخصية
آراء العلايلي الفقهية في ضوء كتابه "أين الخطأ" تحمل المستوى الفكري في نتاج العلايلي "إنجازاً اجتهادياً فكرياً جريئاً انطلق من حاجات العصر وتطوره ومن فهمه الأصيل لروحية الاسلام وغاياته الإنسانية وله نظرته المميزة في الأحوال الشخصية إذ يعتبر ان الإنتماء هو إنتماء الدم وليس الانتماء للدين: فأكد أن الطائفية مولود غير شرعي من انزواج طوطمي بين التعصب الديني والتصلب الفقهي والفكري مؤكداً على شعار له قديم "ليس محافظةً التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يحقق المعرفة" وليس الفقيه من يحفظ: " قال وقيل" بل من يستخرج ويستنبط من القيل والقال "لأن العبرة في الفقيه ليست بما حفظه وحصله، ولكنها بقدرته على استنباط الأحكام الشرعية وتمكنه مما يسمى بآلة الاجتهاد.
المصطلح الفلسفي وتطوره في لغة العلايلي
كان العلايلي في الرابعة والعشرين من عمره حين أصدر كتابه الشهير : "مقدمة لدرس لغة العرب" وقد تعرض فيه لأصل اللغة ونشوئها وارتقائها كما تعرض للأوزان الشعرية، وناقش معضلات السماع والقياس والإشتقاق، وبهذه اللغة راح يؤلف في شتى الميادين العلمية، فألف المعجم والموسوعة وكتب في الشرع والفقه والتفاسير والإجتهاد وغيرها من الأمور التي قاربت النظريات الفلسفية وهو الذي وجد في فيلسوف المعرة صديقاً حميماً مؤاخياً، فتوفر على دراسته دراسة موضوعية جادة متخذاً من فقه اللغة والمعجم الفلسفي الخاص بألفاظ المعري ومصطلحاته وسائل بحثية لفهم ذلك الفيلسوف الغامض، ذلك المعري المجهول على حد تعبير العلايلي.
وقارئ العلايلي يجده فيلسوفاً في كتاباته أدخل إلى نصوصه مصطلحات فلسفية تضطر الباحث أن يعمل عقله لسبر أغوارها كأن يقول: إن السبيل إلى الله تعالى لم يكن يوماً ولن يكون طريقاً وحيداً حانقاً خانقاً، مأزوماً ضيقاً إذ أن لكل أحد أن يسلك إلى الله تعالى من طريقه محاكياً مقولة الصوفي الشهير نجم الدين كبرى : "الطرائق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"
أو عن الاجتهاد : "إن الاجتهاد مهيع فسيح وسيع لا يجوز تحجيره لئلا تتحول معالم الدين إلى محنطات بالية أو مومياء متصلبة فاشلة".
النظر النقدي عن العلايلي
لقد فتح العلايلي أبواب النقد على مصاريعها، هكذا سيرة المفكرين الفلاسفة، يقرأون وينظرون، لا يؤمنون بالمسلمات المطلقة، لهم آراؤهم في الفقه والشرع، هم مجتهدون ودلاؤهم كثيرة طالما عكرت العقول الراكدة.
العلايلي ناقد عالم جريء وفي شتى ميادين المعرفة، نهل منها الأدباء والمفكرون والشعراء واللغويون فلغته معجم، وأدبه موسوعة طالت آراؤه النقدية الأدب، نثره وشعره، فالشعر الحق عنده هو الذي يشعرك بأنه يألم ويحب بنفس وحياة وفيه طبيعة الألم والحب، أما إذا رسم الشعر صوراً من الألم أو صوراً من الضحك فقط، من دون أن تتأجج فيه حرارة الحياة، فإنه يأتي جدباً ميتاً لا حياة فيه ولا معنى.
أما العلايلي الناقد الأدبي فإنه أوحى بوحدة المضمون والشكل والصورة فابتعد عن المحسنات البيانية والبديعية والزخارف إن لم تكن عفوية غير متكلفة.
عنه قال المستشرق الروسي سميرنونف : "يأتي اسم الشيخ عبد الله العلايلي في طليعة العلماء العرب المعاصرين الذين يستند إلى أبحاثهم ومؤلفاتهم الباحثون السوفيات في حقل الإستعراب".
القومية والوطنية في فكر العلايلي
يقول العلايلي عن القومية العربية: "لا ريب في أنّ القومية العربية واقع مادي وروحي وتاريخي ولا شك في أن العرب جاهدوا في سبيلها وتعاملوا معها كواقع اجتماعي ونظام سياسي". وقد استعاض عن فكرة العصبية الدينية بفكرة القومية اللسانية، والجغرافية، والتاريخية والإجتماعية والإقتصادية، ليضع دستور العرب القومي.
وفي مسألة الوطنية يعتبر العلايلي أنّ كل من يدعي استقلال لبنان هو مخدوع، لأن نيل الاستقلال الحقيقي يتم برأي العلايلي عندما يكون "تعبيراً عن إرادة تحترم وسيادة تنال، وتعبيراً عن الحرية القومية وعن الارادة القومية" وليس تقويضاً وتفتيتاً للمشروع العربي.ويزداد قلق العلايلي من إبقاء لبنان قيد العلة الطائفية وتقوقع في جحر ضيق.
ويستشهد بجبران: "لكم لبنانكم الخيالي في دنيا لا نعلم من العوالم، ولنا لبناننا الواقعي في دنيا العرب، دنيا حقيقته التي ينبغي بها ويحسها مثل خلجات وحيوات".
الحوار والتقريب في منهج العلايلي
لقد تحدث العلايلي عن كل القضايا بفكر إسلامي منفتح، لم يقل إلا "الإسلام" ولم يتحدث عن المذاهب الإسلامية. وهذا قمة التقريب.
من هنا كان هاجسه ودأبه التوحيد ونبذ الفرقة والاختلاف ولو في فروع داخل الأمة الاسلامية.
وفي مقدمة لمحاضرة ألقيت سنة 1939 دعا فيها العلايلي: "لا إلى التقريب بل إلى صهر الجماعات الإسلامية كلها في بوتقة واحدة، وبتوحدها يتوحد موقف الشرع إزاء التحديات التي لا تفتأ تطالعنا بها تعقدات المدينات المعاصرة.
وإزاء الإختلاف  حول أمور العقيدة أياً كان رأى العلايلي: "التسليم بكل ما قالت المدارس الفقهية على اختلافها وتناثرها، حتى الضعيف منها وبقطع النظر عن أدلتها".
لقد جمع شيخنا إلى الأصالة المعاصرة وإلى الدين العلم وإلى الوطنية والقومية الإنسانية والعالمية طمح إلى عالم مثالي واقعي يتجلى فيه المجتمع الاسلامي الأمثل، وينعم بالحرية والسعادة ويؤمن بعد الله بالإنسان أياً كان وأيانا كان"، وما أرسلناك الا للناس كافة.