شريط الملتقى

مقالات

الكاهن الذبيح في عشائه الأخير
٣١ كانون الأوّل ١٩٦٩

الكاهن الأخير في عشائه الأخير

بقلم: الأب جورج مسوح

        ذكّرني ذبح الأب الكاثوليكيّ جاك هامل (84 عامًا)، يوم أمس الثلثاء، باستشهاد أحد كبار آباء الكنيسة القدّيس بوليكاربوس أسقف إزمير، عام 156، الذي استشهد عن 86 عامًا. نعم، ما جعلني أجمع بين الحدثين إنّما هو تشابه عمرَي الشهيدين. كما ذكّرتني جنسيّته الفرنسيّة، من ناحية أخرى، باستشهاد أحد أصدقائي الأب كريستيان شيسيل، ولـمّا يتجاوز الثلاثين من عمره، المهندس الذي ذهب إلى الجزائر مبعوثًا من الآباء البيض للعمل في أحد المراكز الاجتماعيّة، فقتلته إحدى الجماعات الجزائريّة الإسلاميّة المتطرّفة مع ثلاثة من زملائه عام 1994.

        ثمّة رواية عن استشهاد القدّيس بوليكاربوس أنشأها شاهد عيان من مؤمني إزمير يشبّه فيها كاتب الرواية استشهاد بوليكاربوس بآلام المسيح وصلبه، فيقول: "وكان يوم الجمعة، وقد قربت ساعة العشاء... وكان في مستطاعه أن يهرب... إلاّ أنّه لم يشأ. بل قال لتكن مشيئة الله". كان الأب جاك هامل في عشاء الربّ (القدّاس)، عشائه الأخير، ولا ريب في أنّ آخر ما قاله قبل ذبحه: "لتكن مشيئة الربّ". ولكن هل حقًّا هي مشيئة الربّ أن يُذبح خادم هيكله؟ مشيئة الربّ أن يحيا الإنسان، لا أن يموت. الموت دخيل على الطبيعة البشريّة، وكلّ دخيل ليس من الله. ليس بالضرورة، إذًا، أن تتمّ مشيئة الله في زمن البشر.

        بعد إلقاء القبض على بوليكاربوس وسوقه إلى الموقع الذي قضى فيه، طلب منه جلاّدوه أن يجحد إيمانه ويلعن المسيح، فأجاب بتنهّد عميق وهو يشير إلى الجماهير وينظر إلى السماء: "إنّ لي ستّة وثمانين عامًا في خدمة المسيح، ولم يسئ قطّ إليّ. فكيف يسعني أن أجدّف على ملكي ومخلّصي؟". جاك هامل الذي قضى أربعة وثمانين عامًا في خدمة المسيح، مثله كمثل بوليكاربوس، لن ينكر المسيح بعد هذه السنين الطوال، ولن يسلمه إلى الصلب، بل يذهب ليُصلب معه.

        ماذا كانت ردّة فعل الجماهير؟ "إذا بعجيج الجماهير يعلو طالبًا قتله: هذا هو معلّم آسية، أبو المسيحيّين، هادم آلهتنا". هنا أيضًا تأتيني إلى الذاكرة حادثة استشهاد القدّيس يوسف الدمشقيّ، واسمه الأب يوسف مهنّا الحدّاد، ضحيّة المجازر الطائفيّة التي حدثت في دمشق في العاشر من تمّوز عام 1860. وتقول سيرته، التي حقّقها الأرشمندريت توما بيطار في كتابه "القدّيسون المنسيّون في التراث الأنطاكيّ"، إنّ أحد قاتليه صرخ حين رآه: "هذا إمام النصارى، إذا قتلناه قتلنا معه كلّ النصارى".

        قتلة الشهيد بوليكربوس، وقتلة الأب يوسف الدمشقيّ، وقتلة الأب فرانس فاندرلخت (76 عامًا) الذي اختار حمص موطنًا واستشهد فيها عام 2014، وقتلة جاك هامل يجهلون أنّهم لا يستطيعون القضاء على "النصارى" إذا قتلوا إمامهم. فاليهود، قتلة المسيح، ظنّوا أنّهم بصلبه سينقذون أمّتهم وينهون رسالته، وقال زعيمهم: "خير أن يموت واحد (المسيح) عن الأمّة"، وخاب ظنّه. فصلب المسيح لم يمنع المسيحيّة من أن تنتشر إلى كلّ أطراف المسكونة.

        هؤلاء هم المسيحيّون الحقيقيّون، الذين يثبتون إلى المنتهى على إيمانهم، ويقدّمون ذواتهم فداءً عن أحبّائهم، أي عن كلّ العالم. هؤلاء هم المسيحيّون الحقيقيّون الذين لم يخونوا رسالتهم ومبادئهم، لأيّ حجّة كانت، فتشبّهوا بالمسيح معلّمهم الوحيد، وحملوا صليبهم وتبعوه، ومشوا على خطاه درب الجلجلة، وقُبروا معه، وقد قاموا معه. زمن الشهداء الحقيقيّين، شهداء السلام والمحبّة والرجاء والإيمان، لم ينقضِ ولن ينقضي قبل أن يتوب العالم كلّه إلى وجهه تعالى.