شريط الملتقى

مقالات

حتى يكون الحوار الإسلامي ـ المسيحي مثمرا
٢٩ أيلول ٢٠١٦

فيكتور سحاب

خطرت لي، وأنا أقرأ في «السفير» يوم 23 أيلول 2016 مقالة سركيس أبو زيد: «ثورة في الدين لإنقاذ الإنسان من الوثنيّة»، خطرت لي أفكار استدرجني إليها قول أبو زيد: «إن فكرة الحوار الإسلامي ـ المسيحي استُنفدت، بعدما استُهلكت، لما رافقها من تكاذب مشترك ومسايرة ومواربة».
والحقيقة أن القائمين على هذا الحوار، ومنهم الصديق محمّد السمّاك، الأمين العام في «هيئة الحوار الإسلامي ـ المسيحي»، صادقو النيّة ولا شك، في محاولتهم حل مشكلة «عدم التفاهم» بين المسلمين والمسيحيّين في لبنان، وإن كانوا كما أشار أبو زيد، لم يوفَّقوا في النجاح بمهمتهم النبيلة، على الأقل حتى الآن.
وأنا لست من المطّلعين على ما يدور في «هيئة الحوار»، ولا أدّعي أني ملمّ بما ناقشته ولم تجد له الجواب الشافي حتى الآن. لكني أعتقد عن يقين، بأن حواراً بين المسلمين والمسيحيين، إذا لم يناقش المسألتين الأساسيتين اللتين تشكّلان «عقدة» العلاقة بين المواطنين من أبناء الدينين السماويّين، فلن يمكنه أن يصل إلى النتيجة المرجوّة، مهما صدرت عن المتلاقين بيانات صادقة تدعو إلى «الإخاء واحترام الآخر» وما إلى ذلك من عبارات طيبة، لا تُنهي المشكلة.
أما ما يمكن أن يُنهي المشكلة، إذا حالفَنا الحظ، فهو أن نبحث بعمق وصراحة قضيتين أساسيتين، إحداهما على عاتق المسيحيين، والثانية على عاتق المسلمين.
ـ أما القضية التي هي على عاتق المسيحيّين، فهي أن تاريخ علاقة الوكالة بين «بعض» المسيحيين العرب والغرب، كانت على الدوام، سبباً للمخاصمة والنفور لدى بقيّة أبناء المشرق العربي حيال هذا «البعض»، منذ أيام بيزنطة، مروراً بالفترة الصليبيّة، وصولاً إلى العصر الحديث وتدخّل الدول الأوروبيّة السبع في جبل لبنان في القرن التاسع عشر. إن تاريخ هذه العلاقة الغربيّة مع بعض المسيحيين الذين لعبوا دور «الوكلاء»، كان بطبيعة الحال عاملاً غير بنّاء في توطيد الثقة بينهم وبين أبناء بلدانهم الآخرين، على نحو شبيه بذاك الذي أدّى إلى مذابح متبادلة ومجازر بحق المسيحيين، حين كان الخلاف في القرنين اللذين سبقا ظهور الإسلام بين مذهبين مسيحيّين عن طبيعة السيّد المسيح: مذهب تقول به السلطة البيزنطية الحاكمة وتريد فرضه على كل رعاياها، وآخر رفضته عموم شعوب أرمينيا وسوريا والعرب ومصر. وكان من طبيعة الأمور أن القلة المسيحيّة التي وقفت مع بيزنطة في هذا الصراع، كانت الكثرة تنظر إليهم نظرة ريبة وشك في أحسن الأحوال.
وفي الفترة الصليبية، حين اجتاح الفرنجة بلاد المشرق العربي، وقف بعض أهل البلاد المسيحيين مرّة أخرى مع الغزاة، ولم يكن موقفهم هذا عامل ثقة بينهم وبين الكثرة الغالبة من أهل البلاد. حتى أن «النصارى»، كما يقول ابن عساكر، في «تاريخ دمشق الكبير»، كانوا قبل الحروب الصليبيّة أربعة أخماس السكان في بلاد الشام. ومعروف اليوم أن المسيحيين الذين كانوا يشكّلون 80 في المئة من سكان البلاد، صاروا قلة بعد الحروب الصليبيّة. وكان عامل الثقة المفقود سبباً في هذا الأمر ولا شك.
وفي القرن التاسع عشر، تروي وثائق الدكتور عادل اسماعيل التي نشرها في المراسلات الرسمية بين الديبلوماسيين الفرنسيين المقيمين في جبل لبنان وبين وزارة خارجيتهم، أن فرنسا كانت تدعم التجار المسيحيين بالوكالات التجارية، وتخصّ الموارنة تحديداً بخدمات التعليم وبناء المستشفيات والمدارس وما إلى ذلك. فهل كان هذا سبباً وجيهاً لارتياب المسلمين حيال هذه العلاقة بين بعض أبناء بلادهم، وبين دول كانت تهم بالحلول محل السلطنة العثمانية في احتلال البلاد؟ الأرجح نعم.
كل هذا التاريخ، إذا شئنا الصراحة والتعمّق في أسباب عدم الثقة، كان سبباً حقيقياً لا ريب. وعلى كل حوار إسلامي ـ مسيحي يسعى إلى بناء لُحمة حقيقية صادقة بين الطائفتين، أن يناقش هذا التاريخ، ليعاهد المسيحيون إخوانهم المسلمين، أنهم لا يقبلون دور الوكالة هذا، وسينشئون أبناءهم منذ الصغر على رفضه، لأنه يثير الريبة لدى المسلمين، ولأنه أوقع الكوارث بالمجتمعات المسيحية العربية عبر الأزمنة.
ـ أما القضيّة التي هي على عاتق المسلمين في هذا الحوار الإسلامي ـ المسيحي، فهي أن يتّبعوا بصدق ما أوصاهم به القرآن الكريم في شأن أهل الكتاب. فالعلاقة الإسلامية ـ المسيحية ليست علاقة اضطرار على مضض، مثلما يشعر بعض المسلمين. ناهيك عن أنها ليست علاقة بين «مؤمنين وكفرة».
في حديث أجرته معي إحدى المجلات الإسلامية، تحدثتُ عن أوجه العظمة في الإسلام والتاريخ الإسلامي، وعن الظلم الذي أصاب المسلمين من جراء غزوات الغرب لبلادنا عبر القرون. فلما استحسن محادثي كلامي، سألني: لماذا إذاً لا تُشهر إسلامك؟ فأجبته على الفور: لأثبت لك أن المسيحي يمكن أن يكون إنساناً منصفاً.
وإذا كنّا نسجّل كثيراً من أقوال المسلمين العلنية عن «الأخوّة الإسلاميّة ـ المسيحيّة»، فإني أعتقد أن بعض مَن يقولون هذا في العلن، لا يقولونه في ما بينهم، حين لا يكون بينهم مسيحيون. لا بد من القبول بالمسيحي، بصدق، ومن دون: ولكن! فكم من مسيحي رفض غزوات الغرب لبلاد العرب والمسلمين، وكم منهم مات في الدفاع عن هذه البلاد، في وجه «مسيحيين» جاؤوا محتلّين طامعين.
ولا بد لكتب التربية الإسلاميّة من أن تنشئ صغار المسلمين على هذه الأخوّة الصادقة، بين مواطنين، تجمعهم رابطة الأرض والتاريخ والمآل، حتى يأتي يوم، يصبح فيه الرابط صادقاً لا زيف فيه ولا مجاملة.
إذا اجتمع المسلمون والمسيحيون، وقد تعهد كل منهم بصدق أن يحسم القضية الملقاة على عاتقه، المسيحيون يتعهدون رفضاً تاريخياً قاطعاً للوكالة للغرب، والمسلمون يتعهدون اتخاذ المسيحيين إخوة حقيقيين لهم في السرّ والعلن، عندئذ يمكن أن ينتهي ما اشتكى منه أبو زيد من «تكاذب مشترك ومسايرة ومواربة»، وقد يصبح الحوار الإسلامي ـ المسيحي مثمراً