شريط الملتقى

مقالات

نشوء العربية وتطور مصطلحها في مذهب العلايلي اللغوي

الدكتور خنجر حمية – رئيس قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية، الفرع الخامس

(محاضرة ألقيت في الندوة التكريمية للعلامة الشيخ عبد الله العلايلي بدعوة من ملتقى الأديان والثقافات بتاريخ 28-2-2017)


أولا": مدخل:  
استوعبت العربية في ذروة نضوجها واستحكام بنيانها كماً لا بأس به من المفاهيم والمعاني والدلالات التي وضعها في طريقها انفتاحها الحضاري على شعوب وثقافات وأمم وآداب، وهي كانت تملك من المرونة ما يسمح لأهلها باشتقاق الألفاظ المناسبة للتعبير عن ما يستجد من شؤون الحياة وشجونها ويتولد من معانيها وأشيائها، استناداً إلى قانونها الخاص الذي قامت عليه، واعتماداً على موازينها التي تتوافق مع معقول العربي في اللغة.
كشف ذلك ، فيما كشف عنه، عن قدرة العربية على التطور، وعلى مرونة لافتة تكفل لها النمو والتوسع على اضطراد، لتعبر عن روح الجماعة التي تخدم أهدافها وأغراضها في التعبير عن نفسها والإعلان عن خصوصياتها والإبلاغ عن الكيفية التي بها تستجيب للعالم الذي يحيط بها وتقيم  فيه.
ولقد كانت هذه المرحلة من مراحل العربية زاهية، خالطها شيء ليس بالقليل من الإبداع والخلاقية والعبقرية، على ما يمكن أن يكون قد جلبه ذلك، فيما يتصل باللغة، من شطط ومبالغة واضطراب وداخله من تردد وارتياب وقلق، من غير أن يخلَ ذلك بمضامين الخلاقية التي تجلت في غير صورة من لغة العرب وتراثهم وتبدت في ميادين الدرس اللغوي على تنوعه وتعدده.
 كانت هذه مرحلة من مراحل العربية قصيرة المدة لكنها كانت غنية أشد الغناء، توقفت عندها العربية عن التطور، وتوقف أهلها عن أن يضيفوا إلى تراثهم جهداً يعتد به في مسار تطورها واكتمالها، واكتفوا بما تحقق لهم من نمو لغتهم لا يغادرونه ولا يضيفون إليه إلا في القليل النادر. ولذلك أسباب كثيرة- داخلية وخارجية- يصعب الإحاطة بها حين نتأمل العربية في تطورها، ويتعذر استيعابه على التمام حين يستعاد تراثها المدون المكتوب في فترات نضوجها المتعاقبة وتطورها واستواء بنائها. لكن ما يمكن الجزم به منها هو غلبة التقليد وتراخي العزائم عند فتور الهمم، فلقد استعيدت جهود السابقين كما لو أن العربية اكتمل إهابها فيما كتبوه وأنتجوه من قواعدها ونظامها، وما قرروه من فصيح مفرداتها وبليغ  تراكيبها، وما قعدوه من قواعد الإبلاغ والتعبير، مما أوقفهم عليه استقراؤهم لتراث العرب اللغوي في فترات نشوئه وتكامله لا يزاد عليه ولا يضاف و لا يساءل أو يناقش ولا يرد أو يدحض. وما يمكن الجزم به من هذه الأسباب كذلك شيء غير قليل من الشطط الذي وقع فيه أهل اللغة وهم يقيمون موازينها استناداً إلى موروث العربي ومعقوله من لغته، في غفلة عن الطبيعة التي تقوم عليها حياة اللغة وتنتهض ، حين قننوا لها الوضع على نظام لا يفي بما تتطلبه كل لغة من شروط لتستجيب لتطور الحياة وتقدم الزمن وتوسع آفاقه، وعلى قانون هو وليد رؤية ضيقة لوظيفة اللغة وللكيفية التي بها تولد وتنمو وتموت، كما هو الحال في تقرير الوضع على شرط السماع وعلى مقداره، وفي رفض التعريب كلاَ ولو نزل على قانون العربية وميزانها، وكالاستناد في الوضع على القلب اللفظي مع ما في ذلك من تكلف وشطط ،ومن غير فهم للثمار التي تجتنى منه في حياة اللغة وتقدمها،  سوى تنويع النغم.       
 على أن الركون إلى التقليد أخطر على اللغة من شوائب التأسيس التي تلبست بها اللغة في أول مراحل تأصيلها وتقنين نظامها واستمرت معها إلى يومنا. هذه تتجاوز بجهد الفحص والسبر و التقويم، وبالدراسة المتأنية النقدية... وبالاستعادة الواعية لتراث العربية وما حفظ من لسان العرب، و تلك يصعب تجاوزها حين يرتفع التراث في مرحلة من مراحل الزمن إلى حدود القداسة ويرى إليه كما لو أنه الكمال بعينه أو يكاد، وأن فيه الكفاية التي لا حاجة معها إلى زيادة تفيد أو إضافة تنفع. مثل هذا الموقف يصعب تجاوزه واختراقه ، خاصة عندما تنطوي الأمة على ذاتها في ذروة شعور بعجز مقيم يلف جوانبها كافة ويستولي عليها من جميع الجهات... فتستكين معه إلى الدعة والتسيلم، وإلى استعادة تراث اللغة كوحدة مكتملة لا تمس ولا تساءل، لا تزيد ولا تتوسع، لا تتطور ولا ينالها شيء من الإضافة أو التغير.
هذا كان حال القدامى في الأعم مع العربية في مدى قرون، وهذا كان حال المتأخرين كذلك، الذين لم يزيدوا على أسلافهم سوى القليل الذي لا يكاد يشف عن إبداع، أو يكشف عن خلاقية أو يشير إلى فضيلة.
ليس ذلك انتقاصاً من جهود جمة في الماضي أو في الحاضر تحسب لأصحابها... لكنها بقيت في العموم في حدود الاستعادة المكرورة لنتاج القدامى، حين قررت العربية على أصولها وقوانينها كما تبدت لهم في استقرائهم لكلم العرب وتراثهم في اللغة...
ومع توسع الحاجات المقاصد وتعقد المعاني وتشابك عالم الأشياء من حولنا... لم يكن بمقدور مثل هذا التراث أن يستجيب إلا في القليل النادر لحاجات التعبير عن كل ذلك، من غير أن يلحقه شي غير قليل من الاضطراب والفوضى ومن التكلف والخلط....
كل ذلك أدركه العلايلي بفكره المتوثب المبدع وعقله المستنير وروحه الثورية. ولأنه لغوي من طراز رفيع، هضم تراث العرب وأحاط به، فلقد كان يملك من الثقة بنفسه وبإمكاناته ما يسمح له بأن يذيع موقفاً لم يكن الكثيرون يملكون جرأة الإعلان عنه أو إذاعته، وهو أن العربية لن تنهض من كبوتها ولن تستطيع مواجهة تحديات استيعاب حركة التاريخ من حولها إلا باستعادة تراثها استعادة واعية، تتحسس مراحل تطورها وعوامل نشوئها واكتمالها بحس نقدي يقوم على سنن واضح وعلم قويم، ليتأتى لنا معرفة الأسباب التي وقفت بها عند مرحلة من مراحل تطورها لا تعدوها، والعلل التي قضت فيها بالجمود والتحجر فأفقدتها جوهر الحياة الذي تقوم عليه اللغة وتنتهض، وهو التوالد والاشتقاق استناداً إلى موازين قابلة للتزيد والنمو والتوسع، كان العربي قد فطن لها وهو يقلب عناصر اللغة على وجوهها حين اقتضته حاجات الحياة إلى ذلك.
آية هذه الحاجة وعلامتها عند العلايلي، ما نعلمه ونقف عليه من أحوال العربية في الراهن، وما أصاب مصطلحها من اضطراب وفوضى، ولحق بقواعدها من تحجر وجمود، وبمفرداتها من الاختلاط وهي تحاول التعبر عن مقاصد ودلالات ومفاهيم ومعان لم يكن للعرب بها إلفة، حين قرروا مفردات لغتهم وتراكيبها وموازنيها وقواعد الاشتقاق فيها في سالف الأزمان.
لقد نحى كثير من المحدثين، ركوناً إلى اليسر، منحى التعريب لمصطلحات العلوم والثقافة وللغة الآداب والفلسفات والمذاهب في السياسة والاقتصاد والإدارة ، من غير أخذ بالاعتبار الشروط الداخلية التي تولدت وفقها موازنيها ونظامها الخاص في البناء والتوالد والنمو. واجتهد كثيرون للتوسع في قواعد النمو وقوانين التزيد والتوالد لتستوعب المعاني الحادثة بلا تأصيل يأخذ بعين الاعتبار روح اللغة في نشوئها واكتمالها وفي العقلية التي صدرت عنها، فعم الاختلاف وشاع في المعاجم والقواميس والموسوعات، واختلط استعمال المفردات حتى غمضت دلالاتها إلى الغاية، واضطربت المعاني وأبهمت، والتبست المقاصد وتداخلت. هذا في الاستعمال، أما في الوضع فلم يكن الأمر أفضل من ذلك على كل حال.. فهو قام في العموم على اجتهاد غبر مكتمل الأركان ولا موحد الرؤية ولا متوافق القصد. وبان ذلك ، أكثر ما بان، في جهود تعريف المصطلحات الفكرية والفلسفية والعلمية، وفي المفردات التربوية والنفسية، وفي الآداب والفنون إلخ... فتركنا ذلك نهباً لشيء غير قليل من الحيرة والتردد... وقلل من الثمار التي كنا نرجوها لنهضة علمية أدبية وفنية، إدارية وسياسية...إلخ، لم ينحسن توفير شروطها اللغوية وأدواتها.
كان مشروع العلايلي اللغوي، فيما رسمه له صاحبه من صورة، مشروعاً أقل ما يقال فيه أنه يتجاوز طاقة فرد، وأنه أكبر من أن تنهض به إمكاناته مهما تعاظمت. والعلايلي كان يدرك ذلك ويعلن عنه في وضوح وصدق، لكنه آثر الاضطلاع بمسؤوليته وحده شهادة للتاريخ، ولإيمان منه راسخ بأن التغيير يتطلب شجاعة موقف وريادة جهد وخطة طريق، وأن الثمار التي ترتجى منه يتكفل الزمن ،مهما تطاول، بإنضاجها، إذا ما قدَر للمشروع هذا أن يولِد أولى مراتب الوعي بآثاره النفسية وغاياته السامية المرتجاة، فيما تستقبله الأمة من أيامها.
وأولى خطوات المشروع كانت في المقدمة اللغوية، التي شاءها صاحبها مدخلاً لمشروع معجمه الذي كان يأمل في أن تتيح له ظروف الحياة إنجازه على الوجه الذي كان يقدره له. وهو شاءها على شكل خطرات ورؤى وتبصرات من غير قصد إلى نظام خاص يدرجها في سياق البحوث المنتظمة المنهجية في فقه اللغة وخصائصها، كما درجت عليه الكثرة من الدارسين المتأخرين من أهل العربية.
لكن مع هذا، فالمقدمة هي أخطر نتاج العلايلي من بين ما أنتج في اللغة عامة، وهي أخطر نتاجه في رؤيته الثورية للعربية كلغة للحياة وللمستقبل، وهي أخطر نتاجه فيما يتعلق بمذهبه في طبيعة اللغة ووظيفتها وفي الكيفية التي بها تنشأ وتنمو و تستوي على سوقها... وفي علاقتها بالعقلية التي تصدر عنها وتخدمها وتبرز خصائصها، وفيها تتبدى على أفضل صورة لمحات غير قليلة من عبقرية العلايلي وإبداعه.
لقد مضت عقود مذ ظهرت المقدمة إلى النور أول مرة، وهي أثارت وقت ظهورها ردود فعل متباينة متفاوتة، تطرف كثيرون في رفضها أو في قبولها، وتريث إزاءها آخرون فاجأهم منها جرأة الموقف وجدة الرأي، لكن مقاصدها الجليلة، التي وقف العلايلي عقله عليها، لم يكتب لها في العموم أن تدرس دراسة جادة لأسباب كثيرة لا مجال هنا لذكرها، أكتفي منها بواحدة وهي أن من كان ينتظر منه – أعني المجامع اللغوية – أن يعير المقدمة شيئاً من اهتمام أكيد أشاح عنها بطرفه، ولم يأخد مضامينها بما تستحقه من الدرس والفحص والاهتمام أو من النقاش والمداولة، وتحيز كثيرون هنا لتراث اعتقدوا جازمين بأن لا سبيل إلى المس به مهما حسنت النوايا ، فضيعوا على العربية فرصة من نقاش واشتغال واجتهاد رأى، كان يمكن أن تقود إلى تمهيد السبيل لنهضة لغوية تترك آثارها، التي لا ترد،  في حاضر العربية ومستقبلها.
ثانياً: مذهب العلايلي في نشوء اللغة وتطورها في المقدمة، وجماع خاطرته:
تقوم كل لغة عند العلايلي على نسق ثابت من التطور، تبدأ أصواتاً يحاكي بها الإنسان أصوات الطبيعة، ثم تصير سليقة فتكون لهجة، ولا تصبح الأصوات لهجة ما لم تستقر. هذا هو نظام كل لغة في النشوء والاستقرار في أول مراتب وجودها، وهو كذلك نظام العربية الذي قامت عليه ونهضت ونمت في توالد مضطرد على سنن. بدأت اللغة بسيطة، مرتقية كانت أم غير مرتقية، تمثلت في مقاطع صوتية واحدية غير مركبة تشكل منها أول الأمر جدول الهجاء بأصواته المختلفة التي يدل كل واحد منها على معنى بعينه، ثم تطورت إلى الثنائي بالجمع بين مقطعين واحديين للدلالة على معنى جديد، فتشكل في نشوء اللغة وسلم تطورها دور جديد من أدوار حياتها، وهو دور وجد في الأعم من محاكاة الإنسان للطبيعة في مختلف أصواتها... ثم أعمل الانسان المنطق في التأليف حين جمع بين المقاطع على سنة واضحة للدلالة على معان أكثر اتساعاً كلما وجد حاجة تدعوه إلى ذلك... .. فتشكل الدور الثالث من أدوار اللغة الذي كان أكثر تعقيداً مما سبقه، لما فيه من عمل المنطق وجهد التنظيم.
على مثل هذا النهج نشأت العربية ــ حسب العلايلي ــ فهي بدأت واحدية بسيطة، هي الحروف التي رتبت فيما بعد بانتظام حسب دلالاتها في جدول الهجاء( ). تبع ذلك دور الجمع بين المقاطع الواحدية لتأدية أصوات أكثر اتساعاً واستيعاباً لمحاكاة تنوع أصوات الطبيعة وتعددها واختلافها، فنشأ ثنائي المقطع، ومنه المعلات، التي يعتبر العلايلي أنها أساس تشكل اللغة في وحدتها، ثم جاء الدور الثالث، ثلاثي المقطع، الذي نشأ من ضم المقاطع الثنائية إلى المقاطع الواحدية لغرضين جوهريين في بناء نسق كل لغة، وهما تصحيح الأصوات في الثنائي المعلّ، وتأليف دلالات مركبة تلبية للحاجات، وفي هذا الدور اتخذت العربية وحدتها، واستقرت في الثلاثي.
وفي الدور هذا من أدوار اللغة، وقفت لغات، وأميتت ثانية، ونشطت ثالثة آخذة بالأسباب الأكيدة لحياة اللغة، وما نشط منها ألف العهد اللغوي الثاني، أو ما يسميه العلايلي عهد اللغات المرتقية.
وخلاصة القول أنه في الدور الأول من أدوار اللغة توصل الإنسان الفطري إلى مجموعة حروف الجدول الهجائي بأصواتها، وهو عرفها بالمصادفة والمحاكاة والتقليد، وبتفسير كهذا لنشأة اللغة يستبعد أي تكون لغات العالم نشأت عن مصدر واحد، وإنما كان نشوء كل لغة منها وليد أسباب مكانية ــ اجتماعية وفردية ــ كالعادات مثلاً وليدة الطبائع والظروف( ).
ولقد بقيت ملاحظة معاني الحروف ــ كما عينها الإنسان الفطري واتخذها بأصواتها لغة للتفاهم ــ في وضع الكلمات ونباتها وتوالدها قائمة إلى آخر العهد اللغوي.
وحاكى إنسان الدور الثاني الطبيعة بمختلف أصواتها، وقصد في آخر هذا الدور إلى التأليف من منطقه الخاص للجمع بين مقطعين أحاديين، فترك ثروة في أكثر المقاطع الثنائية، وهو حالة لا بد منها في نشوء اللغات، وإليها يرجع كل ثنائي، بما في ذلك المعلات في العربية، التي وجدت قبل الوضع الدوري، وقبل وصول العربية إلى ما وصلت إليه كلغة ذات فقه خاص واشتقاق ثابت ومطرد( ). وهي كما يبدو وليدة فوضى الوضع القديم، وأقدم ما وصلنا من علم اللغة، التي أعمل فيها عربي الدور الثالث تصحيحاً طال أصواتها.
 وفي الدور الثالث من أدوار اللغة، وهو دور الجمع بين الثنائي والمقاطع الواحدية لتلبية حاجات التعبير والبيان، اتخذت العربية وحدتها واستقرت في الثلاثي، وفيه تم للعربية الكثير من الرقي.. واستناداً إليه، كما يفترض العلايلي، يسهل لنا استعراض أدوار النشوء في بناء هيكل اللغة على سنة تدرجية غير آخذة سبيلاً من الطفرة، أو قائمة على المفاجأة المحضة. والذي يقدره العلايلي أن الإنسان احتاج إلى الخطاب المبسوط، بحكم عوامل الرقي والتطور، فوجه عنايته إلى المنطق، وجمع جهده في انتزاع الكلم وتحصيلها من أي وجه، ثم راحت الثلاثيات تتكاثر وتنمو على سنة التركيب الكلمي الذي يتخذ بحكم التعبير به طبيعة الأفراد، أعني الدلالة على مفردات الأشياء. ولقد تشكل هذا الدور من حلقات متباعدة المدى، لكنها بقيت خاضعة لطابع الثلاثي لا تغادره، ويراها العلايلي حلقات خمساً( ).
أ- الاجتهاد لتكوين منطق لغوي والتعبير عن الحاجات.
ب- تكثير اللغة وفوضى الزيادة.
ج- التنبت اللغوي وتنظيم موضع الزيادة وتصحيح الأصوات.
د- النضج اللغوي وبناء قواعد التزيد وسننه، في القلب والإبدال والتضعيف .
هـ - بناء المعاني التركيبية، وظهور الاشتقاق وتوسع الموازين.
في الحلقة الأولى اجتهد العربي ليخضع ما حوله لمعاشه، وأعمل الحيلة لتكوين منطقه بين مطالب العيش الجديدة، فصارت له لغة على مقياس من تفكيره وحوائجه. ولقد بقيت لغة العربية هنا على غير تناسب ولا نظام، جهد العربي في اصطناع كلماتها لإبراز ما في نفسه ولنقل ما يريد إلى من يشاركه الحياة ويجاوره السكن، فترك ــ مع ذلك ــ ثروة لغوية، تتألف من المفردات ذات المقطع الواحد، والمقطعين، وهي المعلات في دور النضج اللغوي، وذوات المقاطع، وهي التي انتهت كوحدة في العربية، إليها تنحل كلمات اللغة وعنها تصدر، ولقد بلغت من الكثرة حداً، أن المفرد الواحد منها كان ينطق بأشكال مختلفة لتأدية معان مختلفة( ).
وفي الحلقة الثانية تشكلت أولى خطوات تنظيم العربية وتهيئتها للاطراد على نسبة آلية مستقيمة ونظام. وتعتبر هذه الحلقة حلقة ـرقي العربية وتكاملها، فلم تعد اللغة هنا اتكالية، ولم يعد العربي يعتمد في تكثير لغته على المصادفات الطبيعية والملابسات الظرفية، بل صار يلجأ إلى التأليف تارة والتركيب أخرى، حسب ما تقتضيه الضرورة وتتطلبه الحاجة، فتخلص بذلك من كثير مما وقع فيه في الحلقة السابقة من فوضى الوضع، التي تعين منها موضعان:
- عدم الاهتداء إلى ترتيب حروف الهجاء على وجهها.
- عدم الاهتداء إلى قانون الزيادة وموضعها، فراح يزيد على الثنائي من غير تقرير لموضع الزيادة، ولا الاستناد في ذلك إلى سنة( ).
وستشكل الحلقة الثالثة من حلقات هذا الدور مرحلة التنبت اللغوي، وسيكشف العربي موضع الزيادة على الثنائي فيقررها على إطراد... ولا يخفى وجه العلاقة بين هذه الحلقة وسابقتها، فهي احتفظت في خضم التنبت اللغوي بخصائص تلك ومميزاتها وطابعها اللغوي وبخصوصيتها الوضعية، ولكونها نظاماً يقوم على الاجتهاد في ضبط الزيادة وتعين موضعها ـ وهذا الأمر هو أهم ما عمله العربي في هذه الحلقة من حلقات هذا الدور، مما سمح للتكاثر اللغوي أن يطرد على سنة بعينها لا يعدوها ولا يباينها.. يحكي العربية ويقلد على قانونها... فلاحظ في الثلاثي دائماً معنى الثنائي وتزيد فيه، وهو شيء أدركه قدامى اللغويين وأصلّوا عليه أصولاً ووضعوا له ضوابط ـ، فكان الثنائي حالة لا بد منها في نشوء العربية، ثم جُعل موضع الزيادة على الثنائي في وسطه- أعني في مكان العين، لا في آخره - على الدوام في غير ما يكون حلقياً من الحروف لأنه ليس حرفاً في مباحث التأصيل( ).
وفي الحلقة الرابعة من حلقات هذا الدور تمَّ النضج اللغوي، فخضعت العربية خضوعاً لأصول في الوضع اعتبرها اللغائيون أسمى وأرفع ما عرفته أمة من الأمم( ).
كان العربي في الحلقة الثالثة من هذا الدور يزيد على نسق واحد مطرد أو على طريقة، ثم اهتدى هنا إلى القلب واجتهد بإتقانه، قاصداً أن يكون الطريق الوحيد للوضع الذي لا يتخلف، وهو لم يترك الوضع عليه حراً، بل صاغه بقوانين تحفظ الفكرة الواضعة وتترجم عنها بوضوح، ومن ثم بعد أن تزيد العربي على المفرد (الجدول الهجائي) ذهب إلى ترتيب المفردات على أساسه، وجعل القلب محور الوضع، ثم اجتهد في ترتيب المقاليب والوضع على اعتبارها، حتى استخلص قاعدة موزونة. ولو قدر لنا الانتباه إلى مثل هذا القانون الذي بلغه العربي باجتهاده، والوقوف على فكرته فيه واستيعاب معقول العربي منه، لأمكننا أن نقوِم اعوجاجاً لغوياً وفكرياً نسير على انحنائه وانعطافه من زمن غير يسير، كما يرى العلايلي وكما سنبين.
وسنرجئ الحديث عن الحلقة الخامسة التي تمَّ فيها بناء المعاني التركيبة وظهور الاشتقاق وتوسع الموازين، لنفصل القول في القلب وفي كيفية استقرار الثلاثي عليه واستناده في التنبت إليه، لأنه ،كما سنرى، الأصل الذي عنه تكثرت اللغة وتوسعت وتزايدت ونمت، ولأن للعلايلي فيه مذهباً مشرقاً واضحاً لا التباس فيه ولا تعقيد( ).
- القلب أو قاعدة الدوائر (الاشتقاق الكبير):
تنتشر هذه القاعدة من أول المقدمة إلى آخرها، وسيستعيدها العلالي في قاموسيه اللذين بنيا على قانونها وخواطرها، وهما المعجم اللغوي 1954، والمرجع 1913م.
ولمركزيتها في تفكير العلايلي اللغوي وفي مذهبه سأعرض عناصرها هنا ،على وجه الاختصار، في حدود ما بينه هو من معالمها في أصول أفكارها، دون تطبيقاتها التقنية، لأن ما يعيننا هنا هو الفكرة في حدود ما تكشف عنه من ابتكار، وفي حدود ما يمكن من التأصيل عليها. أما تطبيقاتها العملية والآثار التي يمكن أن تجنى منها فسنشير إليها إشارة عابرة في آخر المطلب( ).
يتولد استناداً إلى هذه القاعدة ست مواد من كل ثلاثي على مثال تولد الكائن الحي، تعيش في أدوار لا تعدوها، وتخضع لناموس عام، وهي تعين لنا المواد الأصل ثم المقالب المتولدة عنها على التوالي التاريخي، بحيث نقف على مقدار قدامة كل مادة ومعرفة العمر الطويل الذي عايشته.. ويبدو أن قاعدة المقالب كانت قانون العرب في تكبير لغتهم حسب الحاجات.. وبذلك تشهد كلمات اللغة. هذا إجمالها، وأما تفصيلها.. فإن هذه القاعدة تعتمد الجدول الهجائي أساساً، ثم تعتبر أقدم المواد من الثلاثي ما وافق ترتيبها، فأقدم مادة من (م، ل، ك) هي كلم، لأن الكاف قبل اللام في جدول الهجاء، واللام قبل الميم.
وأول مراتب الاشتقاق على الثلاثي إنما يكون بجعل العين واللام منه فاءاً وعيناً، أي بجعل الثاني والثالث من حروف الثلاثي أولاً وثانياً، فتفرخ المادة الواحدة الأصل مادتين مثل (كلم) تصبح (لمك، ومكل). ولو ذهبنا نستولدها على الطريقة عينها لم يتولد منها إلا مادة الأصل (كلم)، ومن ثمَّ يقف الثلاثي عن الإنتاج، إلا بنوع من التغيير يجري عليه، بعد تمثله دائرة بعينها.
 وتشكل المقاليب الثلاثية السابقة أول دوائر الاشتقاق، وفي الدائرة الثانية من دوائره نحصل رأس الدائرة بتقديم اللام من مادة الأصل إلى موضع العين، فتصبح مادة الأصل السابقة (كمل)، وعن هذه المادة تنشأ مادتان وفق نفس قانون التقديم السابق، بأن يوضع الثاني والثالث مكان الأول والثاني على التوالي فنحصل على (ملك، لكم)، ثم يتوقف الثلاثي في هذه الدائرة عن الإنتاج أبداً، إلا على شرط سبق( ).
والقاعدة تقضي بوجود جامع معنوي بين المقالب كلها ــ أعني الستة المتولدة في الدائرتين ــ لا يمكن أن يتخلف، ولو على بعد، وإنما يتجه التخالف بينها على الخصوصية ـ...والخصوصية فرع حكم من فروع هذه القاعدة. فمثلاً الجامع المعنوي في المواد الست السابقة، هو القوة التي تترك أثراً، والقوة إنما تكون في كل شيء بحسبه، ومن ثمَّ نقف على أصالة نقل كلم إلى الكلام، وما إلى ذلك، فقوة المادة (كلم) تترك أثراً بحسبها وكذلك (لكم)... ومن هنا أخطأ القاموسيون حين رفضوا فكرة الجامع المعنوي بين المقالب، فحاروا في تفسير العلاقة بين كثير من الكلمات ومعانيها ومعقول الواضع من وضعها ـ، كما هو الحال في (محارة) التي تعني صدفة اللؤلؤ ــ فلقد ردها ابن منظور إلى الفعل (محر) مع كونه مماتاً- كما تقطع بذلك قاعدة المقالب- وردها الجمهور إلى حَوْر ذهاباً إلى عدم وجود الفعل(محر) في العربية.
واستناداً إلى ضرورة وجود جامع معنوي بين المقاليب، وإلى أن الثلاثي ينقلب إلى ست صور نستطيع فهم معقول العربي من إطلاق لفظ محارة على صدفة اللؤلؤة.
فمقالبها في الدائرتين هي( ).
-     حرم، روح، محر.
-     حمر، مرح، رحم.
وعلى ضوء قاعدة المقالب هذه نقف مبهوتين للملاحظة الدقيقة التي بنى العربي الوضع عليها، وهي التخصيص في كيس الحمل الجنيني على فصائل النوع تخصيصاً ملاحظاً فيه أدق المميزات. إذ من المحقق أن اللؤلؤ حيوان من الدرجة الانتقالية، ومن المحقق أن ذلك كان معروفاً لعصر الوضع العربي، ولذلك وضع للكيس الجنيني في الحيوان الانقلابي (محارة) ،فالمحارة كيس جنين اللؤلؤ، ووضع للكيس الجنيني في الحي التام الحياة (رحم)، وعليه فالرحم كيس جنيني للحي المكتمل( ).
ذاك يؤكد وحدة الجامع المعنوي بين مقالب الثلاثي في كل مواده، ويؤكد قدامة كل مادة وتاريخ نشوئها، ويؤكد صحة اختيار الجدول الهجائي أساساً للقاعدة.. ومن ثمة يقودنا ذلك إلى الحذر من الاطمئنان إلى ما تقوله القواميس بشكل مطلق( ).
ولتعيين الخصوصية في المقالب وموضع كل خصوصية في كل مقلب ،جرى العربي كذلك على قاعدة، ولنتبين فكرة الخصوصية نسلك مسالك ثلاثة تعين موقع المادة من الدائرة. ثم نؤكد بمثال ثم بنبين معقول العرب من القاعدة( ).
- موقع المادة:
تدل المادة الأولى في الدائرة الأولى على الوحدة في أجلى صورها أعني على المعنى الجامع، والمادة الثانية تدل عليها مع ملابساتها الحسية، والثالثة مع ملابساتها المعنوية.
والمادة الأولى من الدائرة الثانية تدل على وحدتها في جلاء ووضوح، والثانية تدل عليها مع انفعال ظاهر، والثالثة مع انفعال مستخف( ).
ثم نرد الثلاثي إلى الثنائي بحذف حرف الوسط منه لمعرفة المعنى الأصل، ثم نحرر معنى الحرف الذي حذفناه لنحصل على الثنائي. ومن المعنى الأصل في الثنائي مع معنى الحرف نحدد معنى المجموع( ).
والنتيجة أنه استناداً إلى هذه القاعدة يصبح سبيل الوضع معبداً جداً، فهو يعين الخصوصية بلا تكلف بالاعتماد على موضع المادة في التفريع وهيئة اجتماع الحروف من المادة.. ومثاله (ز،ق،ن) الذي يعني الرقص. وخلاصة معنى الثنائي منه: خفة متمكنة باطنة، مع ملابسات حسية دل عليها المزيد (أعني حرف الوسط). ومثلها (ف، ز، ن) التي يظهر معناها في الثنائي فترد إليه، وهو (فن) ومعناه الحركة مع ميد، ثم نحدد معنى الحرف من المزيد على الثنائي وهو (ز): وهو التقلع القوي. نجمع المعنى الأصل في الثنائي إلى معنى الحرف فيتألف معنى المادة، وهو الحركة المتقلعة عن ميد. ثم نحدد موقعها الدائري فنجده في المقلب الثالث من الدائرة الثانية، وهذه تدل على الوحدة - أي المعنى الواحد- مع انفصال مستخف، فتصبح دلالتها الشاملة: الاضطراب المتأثر بتأثير خفي، كاضطراب ذوي الأمراض العصبية... فمواد المقاليب من الثلاثي تجمعها وحدة معنوية تلحظ عند الوضع على الثلاثي قائمة في الثنائي، وإنما تختلف في الخصوصية، وسبيل تعيينها إنما هو موضع المادة من الدائرة والاجتماع الحرفي في المادة.
من أمثلة كهذه نعلم أن الواضع القديم كان يحرر التشابه بين المسميات ليضع لها مادة تتوافق في مفاهيمها.
ولا يتردد العلايلي في أمر هذه القاعدة وفي صلاحيتها لتكثير اللغة، معتبراً أن الثروة العظيمة التي حازتها العربية تحصلت من قاعدة القلب، بينما كان عمل الإبدال والتضعيف وما شابهها من قواعد التكثير يسير إلى الغاية( ).
ويكفي ــ بنظره ــ أنها تضمن إحداث مواد لم تعرفها عربية المعاجم وإن كانت تدل عليها، لما تقرر من وجود جامع معنوي بين المقاليب، فلم يعد من الصعب أبداً تعيين الدلالات بحيث لو وضعها العربي لما تجاوز بها هذا المعنى، عدا عن أنها تعيِّن المسميات كما هو حال (محر). ومهما يكن من أمر نشوء هذه القاعدة وملابسات اكتمالها، فإن العلايلي يرى أن اعتمادها كفيل بمنجاة العربية في مستقبلها البعيد، وبتصحيح نصوص المعاجم التي لا يطمأن إلى كثرة فيها، وبتلافي تخلف العربية حيال ما يغدق به العلم من اتساعات موضوعية تستتبع تزيداً في اللغة( ).
وباكتمال مقصد العربي في الاشتقاق على سنة المقاليب، لم تعد لغته في حاجة إلا إلى مكملات تحكم اللغة، وتنفي عنها التريث البطيء، ولو بقي العربي في جزيرته لبلغت لغته نهايتها من التطور وتنظيم تلك المكملات، ولما بقي فيها شيء من فوضى الوضع والموازين والجموع والمصادر والأفعال. لكن هذه الحلقة من حلقات النمو اللغوي وقفت دون أن تنتهي، فتوقفت اللغة فجأة بداعي الخروج من الجزيرة، وتخلل العرب في بقاع متباعدة من الأرض( ).
- ثم جاءت الحلقة الخامسة، حيث صادف العربي من المعاني التركيبة ما لا تؤديه كل الثلاثيات، ولاحظ هنا أن هذه المعاني تنبني على الثلاثيات، كما لاحظ فيها زيادة في المعنى تفتقر الثلاثينات إلى تأديتها لتتم دلالتها، ومن هنا كانت الحاجة إلى الزيادة، لكن العربي احتفظ بالثلاثي كوحدة للمعنى، واستعان بحروف الجدول على صبغ هذه الوحدة بصبغة تجعل منها معنى مؤلفاً، فتوصل إلى زيادات تصريفية جعلها في أول الثلاثي، وإلى زيادة من أجل تحصيل كلم المعاني المؤلفة فجعل موضعها في الآخر. ومن ثمَّ تولد الرباعي والخماسي، في تعاقب، ولحاجة ماسة( ).
هذه هي الطريقة التي جنح إليها العربي لتحصيل الرباعي والخماسي، فلقد كانت لحروف الهجاء في مفهومه معان عمومية يزيدها على الثلاثي عند الحاجة للوضع في معنى جديد. وتنتظم هذه الطريقة ــ حسب العلايلي وفي يقينه ــ نظرية لا مجال للشك فيها أو التردد، ولغة العرب في موروثهم تؤكدها أيما تأكيد( ).
فكلمة قرطاس مثلاً الذي هو ورق البردي... ذكر اللغويون أنها دخيلة، ولو أخذنا بتحليل اللفظ على ضوء القاعدة السابقة لوصل الأمر بنا إلى عربيتها. إذ قرطاس ترجح إلى قرط، ومعناه ورق الكراث، ولما كان ورق البردي على نسق أبسط أضافوا إليه (السين) للدلالة على أهم ما يميز الورق النباتي، وهو السعة والبسطة، على خلاف ورق الكراث، وهي خصائص البردي. و(عنقاش) ، معناه المتجول في القرى من (عنق) وهو شدة السير. و(ختلم) معناه أخذ الشيء خفية، من (ختل)، أي أخذ( ).
وتترتب على هذه القاعدة في اشتقاق الرباعي والخماسي فوائد
ــ منها، وضع حد للتعريب بلا قاعدة، لكفاية الموازين في استيعاب الجديد.
 ــ ومنها وضع قاعدة صحيحة للأبحاث اللغوية تغير كثيرا من زيف التاريخ اللغوي.
- ومنها الإفادة غير المحددة في الوضع المستقبل، وسد حاجة العربية لتكثير الوضع.
- ومنها تصحح نقول المعاجم عن الأقدمين الذين ظنوا أن الرباعي وغيره تولد بالتركيب والاختزال كما ظنوا في (بعثر) أنها من (بعث ــ أثير) ،و(شقطب) من (شق ــ حطب). والعربية شبت عن هذا النحت بما فيها من موازين علمية وقوانين للوضع تجري على سنن لا يتخلف ـ. والنحت ليس كذلك، إنه ظاهرة من طفولية اللغة وتخلفها( ).
فلا مزيدات من اختزال وما أشبه، بل وفق قاعدة وعلى اطراد. السداسي يرفع إلى الخماسي، وهو إلى الرباعي، وهو إلى الثلاثي، وهذا إلى الثنائي، وهذا إلى الأحادي وهو مجموعة حروف الهجاء في الجدول التي هي لغة الإنسان الأول( ).
ولقد كانت الحاجة تدعو العربي إلى استحداث موازين لحاجة ماسة، ليتوسع في نظام الوضع باستخدام قوانين لم تكن الحاجة ماسة إليها قبل ذلك. وهي كانت في حالتي الإهمال والإعمال عنوان خصب اللغة... ومن هذه القوانين الرباعي بالتكرار كـ (ذبذب)، وهو ميزان مستحدث من الثنائي رأساً، وهو تأخر جداً، ودعت إليه الحاجة للتدليل على المعاني التركيبة في صورها البسيطة، كالحركات السريعة على المكان الواحد. وهي خطوة حصلت دون أن تكتمل... ومع ذلك فقد أخذت بالاستقرار واستحدثت في سيرها ما دعت الحاجة إليه من موازين دخلتها الزيادة الصرفية (كافتعل( ) أو استفعل) إلخ( ).
ولقد يكون هذا الأخذ الجديد من إقرار الموازين بدلالات قارة وإقرار الأفعال على باب واحد، وكذلك المصادر والجموع، إنهاءً حقيقاً للحلقة الخامسة من حلقات الدور الأخير، ووصولاً بالعربية إلى المستوى الذي كانت ستصل إليه لو بقيت في محيطها( ).
واستناداً إلى مثل هذا الفهم لتطور اللغة يفهم العلايلي نشوء اللهجات واختلافها، وهو فهم يخالف فيه مشهور اللغويين. إن ما يسمى باختلاف اللغات وهو بقايا خلفها التطور الذي لم يتكامل في مرحلة من مراحل نمو اللغة واكتمالها.. إذ جميع الاختلافات المحفوظة في البنية أو الإعراب أو النهج البياني إنما هي تطورات فقط، يمكن أن يربط بينها بحيث تنتظم في سلم ارتقائي واضح، وتسلسل تصاعدي صحيح. ومن أمثلة ذلك (يعقيد: للعسل يعقد على النار) و(يعضيد: للبقلة المرة لها لبن لزج)( ).
واللغويون على أنها أبنية إسمية اشتق عليها توسعة، ثم اختلفوا في حروف التمثيل، وهي ــ ما يقابل الموازين، ليعرف أنها أصل أم مزيد،- مثل (عنبس) على فنعل أو فعلل، وعلى الأول هي مزيد وعلى الثاني أصل( ).
ورأي العلايلي أن العربي مرَّ بهذه الكلمات في عهد من عهود اللغة كأفعال فقط، وهو في الدور الثالث اتخذ الفعل وصفاً، ونطق بالحركة حرفاً، فلا عجب أن يكون قد وصل بهذه الأفعال، على (يعقيد ويعضيد وينبوع ويسروع) أي (يعقد ويعضد وينبع ويسرع) فلزمت كأسماء، وتطورت اللغة وبقيت فيها دالة على مسمياتها، مع الاحتفاظ بلونها الأثري الذي ينظر إلى وجودٍ سابق، وبقيت هذه اللهجة مقدرة على لسان بعض القبائل، فالفعل (ينبع) تحلل وانفصل عن شكله الأول، يوم كانت تنطق الحركة حرفاً، فكان يبناع ثم ينبوع، وهو الصورة المتدنية لشكله المتحرر منها. وليست أبنية إسمية كما زعم اللغويون( ).
وهذا يعني أن العربية مرَّت بعهدين، هما الصوتي واللفظي ــ في الأول كانت اللغة تقوم  على الحروف، ثم بقي ذلك إلى العهد الذي أصبح فيه الحرف حركة فنطقت ( شيمال) شمال و(يسروع) يسرع و(ينبوع )ينبع وهكذا. وهو يظهر في اللغات الدنيا في سلم الارتقاء- وقد طال أمده في العربية- وفي الثاني امتازت العربية بقيامها على الحركات، وبتحررها تحرراً غير مطلق من الصوتية، وبتركها قوانين كما في (نيدلان). وبهذا بلغت اللغة الشوط الأخير في ترقي اللهجة. وهذا الدور من تطور اللغة ينقسم إلى مرحلتين، في الأولى وقعت كثرة الموازين التي تصدر عنها اللغة  في اشتقاقاتها، وفي ختامه توقفت دون أن تنتهي إلى حاضر مستقر تقود إليه عناصرها الفعالة. وعلى ذلك أمثلة كثيرة يستوعبها العلايلي شرحاً وتفصيلاً( ).
ومن أمثلة البواقي من مخلفات عصور التطور (ينبوع ويربوع) (ضاريب وقائيم) في اسم الفاعل.
ومنها الابتداء بالساكن كـ (اعشوشب، اخريط). ومنها الانتهاء بالمتحرك (كعمرو، وأخت أمهو أي أخت أمه).
ومنها (ياقوظ الذي صار يقظ) على وزن فاعل وهو وزن أميت، لا أنه وزن اختلف معناه.
ومنها (خاتام، صار ختام وخاتم وختم). وهو مثال نموذج يحتوي على كل مراحل الترقي في عمل اللغة، ويبين مقدار عمل التطور في العربية( ).
ومنه (نيدلان ونئدلان)، وهما متطوران عن بعض. وهو مثال كذلك يكشف عن طريقة العربي التي توصل بها إلى ما يبغي من التصحيح. فقد كان (نيدلان) في العهد الصوتي (نيدلان) بالكسر فقط، ثم تعذر نقله كذلك لما يترتب عليه من محذور الانتقال من الكسر إلى الضم ففصل بالياء، ولما كان العربي يطرد الهمزة في أحرف اللين عند التصحيح همز الياء.
وعلى مثل ذلك جرى العربي في موازين الأفعال فثبتها في الثلاثي. ووزانه الذي استقر على صورة آلية أن يكون مفتوح العين إلا عند الحاجة المعنوية فينقل إلى (فِعِل) و(فعُلْ)( ).
والمضارع على وزن (يفعَل) إلا للحاجة المذكورة فينقل إلى (يفعِل، ويفعُل)، والأمر يتبع المضارع.
وهذه نتيجة خطيرة تخلص من اضطراب كثير، وتعبد سبيل العربية المتعثر، ومن ثمة يتسنى لها أن تستقيم على سنة واضحة وقانون بين( ).
فالأفعال، على وزانها الأصل، تدل على التلبس بالحال الفعلية في الزمن الخاص. ثم يتغير الميزان لغرض معنوي كالتفوق والتركيب فينقل إلى الضم في المضارع، (نصر ينصُر). ويطرد ذلك في المفاخرة والمغالبة. وإذا دل على التغير خلواً أو امتلاءً وجوداً أو عدماً صار (فعَل يفعِل) وعلى الرسوخ والطبع (فعُل يفعُل). والتجزي والتقسيم (فعِل يفِعِلُ) (كورث يرث) وهكذا( )...
من تحليل كهذا يخلص العلايلي إلى تفصيل مذهبه في تطور اللغة بلا فواصل كما هو حال الكائن الحي بلا طفرة ولا تراخ. فيعقد لشرحه باباً كاملاً من مقدمته. ويحشد له الشواهد من أقوال الأوائل، وهو يرى أن تطور العربية كائن في حلقات محفوظة النسب مقدرة المنازل على صورة خالية من الفراغات، حتى التفاعل والمغالبة التي يثيرها الارتقاء وتنتهي بغلبة الأصلح. وهو شيء لم ينتبه إليه أحد ــ كما يقول ــ من دارسي اللغة، ولحظه الكوفيون بكلمات قليلة (كأيمن جمع يمين، اختصر إلى أيم ثم إلى مُ  ومِ). ويدلل عليه بكلمات اللغة المتطورة كـ (نيدلان، ونئدلان). وزيبُر، زئْبرُ، وزئبَر) (حِبُك، حُبُك، حِبك). ومنه في اسم الفاعل (فعيل، وفعِل، وفعْل) المتطورة عن (فاعيل)( ).
وفي الأفعال ك: (هيهات) التي هي بقايا لغة أميتت وحل محلها الأمر، عندما تهذبت على ما انتهت إليه العربية.
وينتهي العلايلي من ذلك إلى خلاصات ثورية.
أولها: حذف السماع من اللغة إلا للوضع على ميزان، وإلا بالقياس عليه.
وثانيها: السماح بصوغ موازين الثلاثي عن أية مادة كانت وكذلك موازين الرباعي خضوعاً لقانون الاشتقاق كما هو حال اللغات السامية بالتحرك من الداخل.
وثالثها: تخصيص الموازين مفردة أو مجموعة بدلالات مادة ثابتة لا تختلف على اختلاف المواد.
ورابعها: توحيد معاني المادة الواحدة، فتعجل معاني المشتقات من مادة ما معاني لها( ).
ولأن السماع شيء قرره اللغويون بلا سند معتبر ولا شاهد يشهد له من كلام العرب فلقد أفرده العلايلي بالتفنيد وزاد عليه ما رآه ضروري الذكر من أخطاء اللغويين التي كان لها أبلغ الأثر في إعاقة تطوير العربية والارتقاء بموازينها لتستوعب المستجد الطارئ من المعاني، ولتنمو مستجيبة للحاجات. ومآخذه هنا كثيرة، ولأجل ذلك سأفردها بعنوان مستقل.
- ثالثاً: أخطاء اللغويين وأثرها في تأخر العربية وتراجعها( ):
أول مآخذ العلايلي على اللغويين مبالغتهم في الاعتداد بالسماع، قديمهم وحديثهم، والسماع كان في أول أمره هيناً، لأنه أقرب طريق إلى ضبط العربية حين يخفى ما يمكن أن يكون علة جامعة، فاعتمد عند المتقدمين من أجل سبب ساذج بسيط لا يعدو كونه أقصر الطرق إلى الحصر، ثم اشتط اللغويون في اعتماده إلى حد كبير أخذ عليهم الطريق الحقيقي لدرس العربية على وجه صحيح. فكان ما اتخذه الأولون وسيلة إلى الضبط في فاتحة الدرس اللغوي، علة الفوضى في خاتمته( ).
وتمسك المتأخرون به على وجه شديد يرده العلايلي إلى أمور:
منها: أنه أقرب طريق إلى الحصر والشرح.
ومنها: تشبعهم بنظرية التوفيق في اللغات.
ومنها: الخوف على سلامة اللغة أن تعبث بها الأهواء.
ومنها: خدمة البيان القرآني حسب اعتقادهم.
ومنها: الأنانية العلمية.
ولأجل هذه الأسباب وغيرها ألحوا في الاعتداد به حداً منكراً، وما أخذوا فيه بالاعتدال، وأفرطوا في تحكيمه حتى انتهى بتقعيد العربية على الوجه الذي نشكوا منه نتألم، وأدى إلى جمود العربية وحجرها والتوائها( ).
والاعتداد الشديد بالسماع هو ما مهد للعبث بالكذب والاختلاف، ضرورة ما كان من عدم الاطمئنان إلا إلى الشاهد والنص والرواية. فكان إذا وضح للغوي شيء من أسرار العربية يجد نفسه مضطراً - ليثق الناس بما انتهى إليه - أن يدرِّع بشاهد أو شواهد، فإن لم يجد اختلق، وهذا شيء نعرف نوادره من كتب الأدب والتراجم( ).
لكن العلايلي لا يرفض السماع على القطع، فمنه ما هو مقبول وهو أن يبقى عمله في المحيط اللغوي، لكن على معنى غير معناه المتعارف بل على معنى الإباحة للواضع (كالعرف الشامل والمجمع)، وللمستعمل بأن يقيس بالوقوف على وضع الواضع والتصرف بالمادة على وفق الميزان في الاشتقاق والتصريف. وما وراء ذلك منه عبث مطلق وتلاعب حقيقي( ).
ولما لم يكن للسماع ــ حسب العلايلي ــ مفهوم صحيح له اعتباره، اختلف العلماء على الدوام في تطبيقه، وهو اختلاف تبدى في المفردات والضوابط . واعتماده قاد اللغويين إلى التمحل لكلم يصححونها، مما أوقعهم في التلاعب والعبث المنكر.
ثاني مآخذ العلايلي على اللغويين( ) أنهم بنوا أبحاثهم على الثلاثي باعتباره وحدة كلم العربية، ثم تشبعوا بهذا الرأي وردوا على أساسه كل مزيد إلى ثلاثيين. وتكلفوا في ذلك أيما تكلف وبالغوا به حتى ألفوه، وظنوه مقياساً لغوياً لا اختلاف عليه. وهم على حق في أصل المبدأ، من اعتبار الثلاثي وحدة كلم العرب، لكن ما أوقعهم في المحظور اعتبارهم الثلاثي انفصالاً عن الثنائي كطابع عام، وهو ليس كذلك، لأن الجماعة لم تكن ملاحظتها للموازين نشوئية بل ارتقائية، وهم إنما اتخذوا الثنائي وملاحظته لخدمة الحصر والتحقيق والاشتقاق فقط. والثلاثي في الحقيقة نشأ عن الثنائي، وكثرة من الثلاثيات إنما هي ثنائيات معلَّة قلبت فيها الحركة حرفاً، وهي التي ينبغي أن تتخذ عمدة لفهم الثلاثي على وجهه، لأنها الأصل الذي انفصل عنه.. ولم يكن عمل التصحيح إلا ضرباً من ضروب إقرار اللغة على صورة واحدة من الثلاثية. والحروف المزادة في الثلاثي كانت تنظر إلى معان بعينها في العهد الصوتي، فالواو نظرت إلى الضمة الممدودة والياء إلى الكسرة وهكذا... ثم تصححت كل حركة بحرف بعد أن توحدت العربية في الثلاثي، فالمعلات ثنائيات مصححة( ).
 ولقد اعتمد العربي في هذا التصحيح طرقاً.
 منها: جعل الصوت حرفاً.
ومنها: التضعيف (كبصَا) نقل إلى (بصَّ) بخطف الحركة وتضعيف الحرف. وهو عمل تصحيح. الأول تصحيح بالتحويل وهذا بالحذف.
ومنها: إبدال الهمزة بالحرف كـ (يسَّ) يصحح (أسَ).
إن مطلق الثلاثي نشأ عن ثنائي على هذه الصورة التي عليها المعلات بزيادة حرف في الهجاء محله الوسط. ولأن اللغويين لم يقدروا ذلك وقعوا في مآزق، فاعتبروا مثلاً (عَبَل) من (عَب) زيدت عليه اللام في آخره، والحق أنه من (عل) زيدت عليه الياء في الوسط، لأن (العل) هو الضخم العظيم، وفيه نجد تمام معنى (عبل)، بينما أقصى ما استعملت فيه (عب) هو تدافع السائل مثل (بحر عباب)، ومثل ذلك كثير مما وقعوا فيه من الهنات( ).
وثالث ما أخطأوا فيه ــ حسب العلايلي ــ هو اعتبار وحدة المادة في المقالب، ثم اعتبروا القلب فيما فيه ترادف كـ (جذب، جبذ) و(يأس، أيس) ( ).
ومن ثمَّ لم يكن عندهم للقلب عمل في تكثير اللغة إلا في كلمات الترادف، وسموه الاشتقاق الكبير. وهو في حقيقته من القلب اللغوي الذي يرجع إلى ما قبل عهد الاستقرار حين كانت حياة اللغة غير كاملة، ثم تناقص حتى لم يبق منه إلا القليل، فـ (يأس وأيس) يدل على أن الثانية أميتت مشتقاتها لأنه لم يدخلها عمل الإعلال، وابن السكيت أبطل هذا النحو من القلب إلا في قلة ترجع إلى لهجات القبائل.
والاشتقاق الكبير أو القلب عند العلايلي هو ما قام على المقاليب الستة التي مرَّ ذكرها، وهو يجري على قانون لا يتخلف في كل مواد الثلاثي( ).
هذا هو الاشتقاق الكبير على وجه الدقة، وهو يؤرخ له بالخليل بن أحمد وطبقته، لما افترض أن للثلاثي في العربية ستة مقالب، منها المهمل ومنها المستعمل. ومن ثمة كان عمله خطيراً جداً، وإن لم يكن قصد إلى الاستفادة من المهملات حين ذكرها كما كان ينبغي أن يحصل وكما ينبغي الآن. ثم طوره ابن جني إلى الغاية، وتابعه على ذلك الحاتمي. لكن كل نتاج هاتين الطبقتين من اللغويين إلى زمن الحاتمي بقيت قاصرة، ولا تخدم إلا خدمة بيانية بلاغية. حتى جاء ابن الأثير الذي افترض أن العربي جنح إلى الوضع على ترتيب المقالب مراعياً المشابهة في فاء الكلمة، وهذا أمرٌ خطير جداً إليه يستند كل نظام الاشتقاق في الثلاثية، لكن ابن الأثير لم يتوسع به إلى نهاياته.. وهو ما يفترض العلايلي أنه أقامه على سنة ــ سبق تفصيلها ــ مفترضاً أن الزيادة في الثلاثي تكون دائماً في محل العين، وهو يطرد في كل ثلاثي، وأن القلب خاص بمحيط الثلاثي لا يعدوه ولا يتجاوزه إلى غيره كما ظن الحاتمي وقدَّر.
-ورابع أخطاء اللغويين يراه العلايلي في الرباعي والخماسي من الموازين. ذلك أن الرباعي حلقة من حلقات التطور اللغوي.. وقد وفق العربي فيه جداً، لما توصل إليه ببساطة ودقة، وهو استطاع أن يحفظ فيه الفكرة الواضعة على تطورها، وأن يجعل منها كائناً له أطواره الحية ومراحله المتعاقبة( ).
ولقد ظن الأقدمون أن الرباعي نشأ بالنحت والاختزال من ثلاثيين، فالرباعيات ثلاثيات اختزلت كما افترض ابن فارس في المقاييس، وخرج عليه من هذا الكثير. لكن صنع العرب لم يكن كذلك.
لقد خرج العربي من كل الوضع في الثلاثي وما تزال في نفسه بقايا من معاني الأشياء لا يجد لها ما يحدها أو يحكي عنها في معجم الألفاظ. ولما كان للحروف اعتبارات ومعان، فكان أن ابتدع المزيد الاشتقاقي بإضافة الحرف على آخر الثلاثي ليدل المؤلف الحرفي دلالة الثلاثي تزيد فيه الخصوصية حسب مضمون الحرف. وهذا هو الرباعي الأصم المعروف. ومثله الخماسي. وأمثلته في العربية كثيرة لا تحصر. منها (جخدب): الضخم الغليظ، يرجع إلى جخد: الضخم، وهذا يرجع إلى جدى- الذي من مشتقاته الجدية- لمعنى القصعة المحشوة، ويظهر معناه في (جد)( ).
ومنها (قلطف): الخفة في صغر جسم، ترجع إلى (قلط): القصير جداً من الناس والخفيف. وهو إلى قطى بمعنى قارب الخطو .ويظهر معناه في قط، ومنه ما هو بمعنى: فلان قارب الخطو وأسرع. إلخ...( )
ومن الرباعي ما هو وليد النحت، وهو المثلي أو الحُملي، وأثر النحت فيه واضح كـ(بسمل، وحوقل). لكن له شروطاً وهي( ).
- المفاجأة أو الكناية أو المثل، مما فيه اعتبار مجازي طريف أو تعريض.
- السهولة اللفظية.
- وضوح الاختزال، بأن لا تشبه صورة المنحوت رباعياً له معنى مادي.
وهذه الشروط تتحقق في صور بعينها.
فقوله: (لقد بسملت ليلى غداة لقيتها) يقوم على سهولة لفظية.
- وحوقل يقوم على المفاجأة والسهولة والوضوح، وحيقل يقوم على المفاجأة والسهولة كذلك.
والبلكفة (بلا كيف) في قول الزمخشري:
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا *** صنع الورى فتستروا بالبلكفة
فيه كناية مبنية على اعتبار لاذع من التعريض.
وقالوا في نشوء الرباعي غير الأصم أنه تضعيف بالزيادة على الثلاثي المضعف كـ (كبكب) أصله (كبب). وكـ(رقرق) أصله (رقق). لكن ذلك غير صحيح( ).
إذ الرباعي هذا نشأ من ثنائيين يراد بضمهما دلالة (بين بين). وهذا يكشف عن أصالة الثنائي في اللغة. والرباعي هذا متأخر بمشتقاته لأنه يدل على معنى تركب في صورة البسيط( ).
وكأن العرب لاحظوا فيه التركيب الذي صارت منه وحدة كما في الحركات المتعاقبة على المكان، كالذهاب والإياب السريعين. ومن هذا الوزن (ذبذب) من (ذب، ذب)، و(رقررق) من (رق، رق). وهو مكرور وليس مضعفاً كما يزعمون (هذا وزان من الرباعي والوزان الآخر ما هو مضعف كـ (شد) ومد، وجدَّ) ومنه (نضنض) من (نض نض) وهو الانتهاض اللين برشاقة وخفة، ومنه (نضناض). وفائدة هذا الوزن في الوضع كثيرة جداً خصوصاً في الموضوعات العلمية والصناعات. ومثله (رقررق) للمتموج الضعيف المتعاكس( ).
- رابعاً: العربية والمستقبل "على سبيل الخاتمة":
إن دراسة العربية في تاريخها لتصويب عمل الأولين، واكتشاف وجوه الخلل الذي اعترى تقعيدها، لا يقلل من جهودهم، وهو شيء يقصد منه العلايلي في بادئ الرأي الاستثمار وحده، والاجتهاد في الاستفادة من الموجودات التاريخية من غير أن يتركها دمى أو عاديات أو شواهد قبور. إن الاحتكام إلى منطق السماع يجعل مخلفات العربية شيئاً من هذا القبيل فقط، لا فائدة فيه إلا في كونه ثروة في التاريخ، فإذا جاوز وضعه التاريخي سقط وسقطت قيمته. ولا بد في الحاضر ــ حسب العلايلي ــ من إعادة بناء نظام العربية على ركائز تستقيم معها لغة للحياة وللمستقبل، قادرة على الاستجابة لمستحدثات المعاني والدلالات والأشياء. وهو شيء يتأتى بنظره استناداً إلى شروط:
- منها: توحيد المعاني في المادة الواحدة، والمقصود به جعل كل معاني المشتقات معاني للمادة، فيشتق المجرد من المزيد، كما صنع الشاطبي، والمزيد من المجرد. وتصبح الوحدة المادية أساساً لتوسيع باب الاشتقاق اعتباراً يدخل في صميم اللغة وروحها. ولا ضير في أن يكون الوضع تحكمياً فيما لو كان من المفرد الواحد عدد كبير من الكلمات على عدد الموازين كما في (سفح) بمعنى سكب الدمع، و(سفح) بمعنى وجه الجبل..
-ومنها، تخصيص الموازين بمعان وتأديات تقوم بها اللواحق في الأجنبية... ولقد أخذت العربية بشيء من ذلك ولو قليلاً، وظل أثره محدوداً، وهو سبيل لا مفر منه ما دامت العربية اشتقاقية. وعمل التخصيص وإحلال الموازين لتأديات بعينها قارة، ضرورة نطلق عليها سبيل الوضع والاشتقاق وفق ما نبه العلايلي عليه في مطلع مقدمته. وإلا فأي معنى لتخصيص وزازن (فعفعيل) بمرمريص. و(فعلعال) بحبلبلاب دون أن نقول مثلاً (حسحسين) و(حسنيان) إذا ثبت أن لا امتياز لمادة على مادة في صحة الاشتقاق ومشروعيته، فنستفيد من هذه الموازين الكثيرة الجمة كما استفاد منها العرب على مقدار الحاجة، مما يضمن للعربية حياة ثرة لا تضعف ولا تهن، وتعود من قوة حيويتها كما كانت، تستوعب مطلق الأفكار وتذهب مع شتى التصورات مذاهبها في الدقة والاحتمال، ولا تنكسر أو تلين لشيء من الآثار المنتشرة بين ضمير الكون وحسِّه، ولا يلحقها رهق ولا معجزة في هضم وتمثيل علوم الأمم وآدابها مع حفظها بشخصها.
وما يقدمه العلايلي في دراسة الموازين فريدـ يستثمر فيه ما قدمه في المقدمة من قوانين تطورت العربية استناداً إليها وبنت نظام وضعها عليها. وهي دراسة تكشف بحسبه سير الاشتقاق في العربية وسنة التفريع وسر الزيادة. وما يصعب على الباحثين إعادة دراسة الموازين كما يجب لها أن تدرس ينشأ من عدم حفظ الكثير من الكلمات التي جاءت عليها في استعمالات وشواهد، وغياب أو خفاء الخصوصيات وتلبدها حتى لا تكاد تظهر كما هو الحال في (فُعّال) كـ (خُطّاف) وفعَّال (كقذاف). و(فعوال) كجلواخ التي تبدو دلالاتها متوافقة متعاقبة إلا في اعتبارات قد لا تكون ملحظ العربي أبداً.
ولأن العلايلي مجتهد يطلق الرأي بلا تقليد، ويقيم القناعة على الفحص والدرس في حدود ما يتوفر له من إمكانات وشواهد.. ومن أدلة وحجج، فهو يرى فيما يقدمه هنا مجرد أفكار تدفع العربية في طريق بعيد يزداد مع الجهود. والغريب على العربية أن تقف بهذه الموازين عند حدِّها الأثري. مع أن الاكتفاء بها هو الذي كمم العربية في كل أوقاتها وجعلها، حتى في أخصب عهود دراستها لا تخدم مجتمعها إلا بالقليل. وقد يتعاطانا العجب حين نؤرخ للأثر اللغوي في جنب الحضارة الإسلامية، فلا نجد إلا النذر اليسير، إن في لغة العلم أو الفقه أو السياسة أو الإدارة أو الفنون والآداب أو الفلسفة. ونظرة واحدة على صبح الأعشى وديوان الصيرفي ورسالة الأسعد بن مماتة، التي ألفت لتصور الحياة الإدارية وجوانب من علم الدولة تكفي للاقتناع بتخلف اللغة عن جوانب الحياة( ).
ولغة العرب التي امتازت بالسعة في مذاهب البيان، والتفسح في جنبات القول إلى حد المعجزة تقف على هذا الشكل من تناول هبات الحضارة، يبدو عجيباً( ).
وليس لهذه الظاهرة التي تناقض طبيعة اللغة وتناقض مرونتها، حين كانت تتسع لكل الأشياء ولأدق الحوائج، إلا تعليل واحد، هو عدم فهم قدامى اللغويين مذهب العرب ومعقولهم في اللغة، حتى اضطر الأدباء والناس من ورائهم إلى تناول الأشياء على ما هي عليه، لأن التقدم سنة الطبيعة يشمل كل شيء على رغمه، والبيان سنة الإنسان التي تلازمه ولا تنفصل عنه. ومن ثم خضع اللغويون لتناول هذه الأشياء واستعمالها على ما هي عليه( ).
ولقد كشف تاريخ الدرس اللغوي أن أولئك الذين كانوا أكثر مزاولة للحياة في حدودها، وخوضاً في شؤونها الدائمة كانوا أرفق شروطاً وأكثر اقتصاداً. وبالأخص حينما وجدوا الحاجة ماسة إلى استيعاب الجديد فقروره في معالم واضحة وجعلوا كل ما جرى به اللسان العربي على أوزانه من غير العربية غربياً كما صنع الأزهري. وكان آخرون يقيسون الحياة على مقدار مقعدهم من حلقة الإملاء، فمنعوا التعريب مثلاً على الغاية.. وهذا يعني أن الجديد فقط عند هؤلاء لكلمة عربي، هو مجموعة ما تضمنته المعاجم بالنقل عن لسان العرب.. فولد ذلك مآزق للعربية، كقصورها عن تناول مقتضيات الفكر، ولا أدل على ذلك من الحيرة في كلمات من مثل (مادة، وجهة، وموجهة) من كلمات المنطق.. التي تساءلوا فيها عن سبب التسمية ولم يفرغوا من سؤالهم هذا إلى جواب، ومن جمود اللفظ على معناه فلا تجده على شيء من مرونة، كما هو حال الحصاة تقلبها الأيدي من غير أن يتغير من حالها شيء على الإطلاق، ومن تفشي العامية حتى قاد ذلك إلى اضطراب اللسان وتباعد الأفهام( ).
تطور العربية ومستقبل أمرها مرهونان إذن بإعادة اكتشاف مناحي الحياة والتجدد فيها، لتقام على قانون واضح لا لبس فيه ولا غموض، تتوسع اللغة وتنمو استناداً إليه، وتتكثر جوانب الوضع فيها بالاعتماد عليه. وبذلك نضمن للعربية الحياة بين لغات الأمم والشعوب الحية، ونضمن لأنفسنا سلامة النهوض.




النظر النقدي عند عبد الله العلايلي: أسس وتجلّيات
الدكتورة نايلة أبي نادر – أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية
 
" الحياة حركة نائمة، والموت سكون دائم، ولكنه بالنسبة الى العظيم يُعطي معنى آخر. فإن موت العظيم ليس سكوناً هامداً، بل هو خروج الحركة عن مركزها لتنتشر في أحياء كثيرين".  

ينغرس الامل في القلوب كلّما نفتح صفحات مشرقة من تاريخ كبارٍ رحلوا وما زال صدى أفكارِهم يتردّد في أروقة الذاكرة ناشراً منبّهاته التي توقظ الوعي وتضعه في مواجهةٍ مع الأسئلة المقلقة.
يتوهّج الشعاعُ المنسكبُ من وجوههم ليجذبنا خارج التناحر السخيف، ويُبعدنا ولو لدقائق معدودة عن التقاتل المُخزي الذي تضجّ به الساحة العربية الاسلامية منذ فترة.
تنكفئ الغيوم الرمادية خجلة لتفسح المجال هذه العشية أمام نورٍعلايلي آتٍ من فوق لكي يخترق وعينا، ويتلألأ هنا في وجه عتمةٍ تلونت بالضياع والجهل والإنكفاء في زوايا الخوف وتوهّم الحقيقة.
في زمنٍ كثر فيه مُدّعو المعرفة وقلّ فيه العلماء، في زمن فاضت فيه الخطابات الهدّامة لتقتحم المنابر والساحات مما حجّم وهج العقل البنّاء وضيّق دائرة الحوار المفتوح، في هذا الزمن بالذات تتّجه الأنظار نحو "رائد التجديد والحوار والتقريب"، نحو قامةٍ اخترقت العدم وتربّعت على عرش المعنى لتطلق كلماتها في فضاء الوعي.
انه عبد الله العلايلي، هذا المستنير الذي تمرّد على الجهل، وقهر جيوشه المتراصّة من حوله. هذا الثائر الذي لم يكتف بتكرار ما قاله الأجداد عن ظهر قلب، هذا الشيخ الذي عشق العربية، وتنفس القومية، وهام بأصالة الهوية. انه  من زمن آخر، له مسارٌ فكريٌ مشبعٌ بالمعرفة والأخلاق. صهيلُ كلماته ما زال يتردّد في الأروقة الثقافية شبه المهجورة، يبحث عن آذانٍ صاغية، وقلوبٍ هائمة، وعقولٍ عطشى تسعى وراء الكلمة الحقّة.
قد تكون طبقات الغبار قد غطّت ملامحه لفترة، وأصوات التعصب الأعمى قد طغت على صوته الثائر في وجه التقوقع ورمي الآخر المختلف بأحقر التُّهم، لكن صدق ما عبّر عنه، وعمق ما توصّل اليه في كتاباته لم يعد جائزاً أن نتجاهله ونتركه طي الكتمان، لأنه جاء ثمرة تفكّر عميق مقروناً باختبارات واقعية متنوعة وغنية.
إن من يواكب كتابات العلايلي يلفته أمرٌ في غاية الدّقة، إنه النظر النقدي الذي طبع مجمل مقارباته التي تناولت موضوعات فكرية عدّة. خرج على التقليد، وحاول أن يقارب المسائل المطروحة في أيامه من وجهة موضوعية، علمية، دقيقة، لا تكتفي بتكرار ما سبق إنتاجه، والتصفيق للأسماء الكبيرة، إنما تغامر في اختراق المحرّم، وإظهار المحجوب. تجرّأ العلايلي على خوض معركة النقد، فرفع قلمه في وجه التحجّر والتقوقع والتفرّد في إمساك الحقيقة والحَجْر عليها في أُطر التأبيد. الشك، والمراجعة الدائمة، والمساءلة الناشطة عناوين عريضة سيّرت منهج العلايلي  في مختلف مقارباته. من هنا كان لا بدّ لي من أن أتوقف عند أسس وتجلّيات النظر النقدي لديه، في محاولة لتسليط الضوء على المنهج الذي اتّبعه في معالجته لمفهوم الدين، وفي قراءته المتميّزة لفكر أبي العلاء المعري.
قبل الدخول في تفاصيل الدراسة، أودّ أن أشير الى أن العلايلي قد غمس ريشته بحبر النقد عند تطرّقه الى كيفية كتابة التاريخ، والى المسألة اللغوية، وعندما عالج القومية، وغير ذلك من الموضوعات الفكرية التي كتب فيها، لكنني اخترت التوقف عند كيفية تحديده للدين، كما عند كيفية تصوّره للمنهج، بخاصة عندما قام بقراءة فكر المعري، وذلك للأسباب الآتية:
1-    المقاربة النقدية التي طبعت تحديده للدين، ولدوره على صعيد الفرد والمجموع.
2-    مخالفته للكثير من التحديدات التقليدية الضيقة وكيفية تعاطيها مع الدين.
3-    انفتاحه على الأديان التوحيدية ومقاربتها للحقيقة الالهية.
4-    انهمامه بالتنظير في موضوع المنهج، وبخاصة المنهج النقدي.
5-    تقديمه قراءة دقيقة تعيد النظر في ما كُتب حول ما أنتجه أبو العلاء المعري.
من هنا، حصرتُ العمل في هذه الدراسة بنقطتين اثنتين، ليس لأن النقد عند العلايلي يتجلّى فيهما فقط، إنما ابتغاء للاختصار والتركيز على ما يندرج في سياق انشغلاتي الفكرية التي تتمحور حول المنهج النقدي وتجلّياته في الفكر العربي الاسلامي المعاصر، بخاصة عند محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وشربل داغر وغيرهم. تجدر الإشارة في هذا السياق الى أن مسألة كتابة التاريخ، وإعادة النظر في ما كُتب قد شغلت العلايلي، فكرّس لها جهداً بارزاً في أكثر من عمل. كذلك مسألة نقد المنهج التربوي المتعلّق بكيفية تدريس التاريخ حاز على اهتمامه، بخاصة في كتابه "تاريخ الحسين". ناهيك عن مقاربته المسالة اللغوية، والموضوعات الفقهية، حيث برز النهج النقدي بوضوح ثورةً على الماضي الذي لم يعد في بعض جوانبه قابلاً للتطبيق في الحاضر. لذا ستطرح الدراسة الأسئلة الآتية: هل مقاربة العلايلي للدين بعامة وللإسلام بخاصة تعتبر مقاربة نقدية؟ ما هي مرتكزاتها؟ وبالتالي ما الذي جعله ينهمّ بالمعرّي، وما الذي تمكّن من إبرازه في هذا الخصوص، بعد أن راجع أبرز ما تمّ تقديمه من دراسات حول فكره؟

1- تجلّيات النظر النقدي: مقاربة الدين نموذجاً
"وما عرفَت الدروبُ، مذ أُبدعت وعُبّدت، غاية لنفسها الا هذه الغاية، غاية العبور الى النور الأسنى".
إن من يتتبّع ما كتبه العلايلي بخصوص الدين بعامة، والاسلام بخاصة، يلفت انتباهه كيف نظر الى الإسلام بعينين واسعتين، فشرّعه على الدهشة، والتجدّد، والتأقلم مع الحياة. رفض أن يُصنّف في دائرة الدوغمائية والوثوقية ويُعزل عن التاريخية والإنغماس في المتغيّر. انه في موقفه المنفتح هذا يذكّرنا بمحمد أركون الذي يتّفق وإياه في ما يخصّ مقاومة السياجات العقيدية المغلقة التي فرضتها عبر التاريخ سياسات الفقهاء الذين ضيّقوا الأفق، وحدّدوا الطرق، مكتفين بالشكل ومبتعدين عن العمق.
يرى أن "في ميدان البحث الإسلامي اليوم ميلٌ جامحٌ الى التقليد يبلغ حدّ التطوّح، وكدتُ أقول الهوى لو لم أمسك وأحبس على قلمي، لِمكان الرغبة الخيّرة التي تكمن وراء هذا الميل؛ فتارةً هو و"الاجتماعية العلمية" سواءٌ، وأخرى هو و"الاشتراكيات الخيالية" على قدر، وهكذا قُل في سائر ما شاع وذاع من مدارس".
وهو يشير الى أن هذا الميل الى التقليد هو "ميلٌ يشاء أن يأخذ الاسلام كنظامِ فكرٍ وعمل، مأخذ هذه المذاهب الحديثة التي شاعت بفتنتها وشاعت باستهوائها. وكان محموداً لو أن كبير أمره وقف عند حدّ الإفادة منها، بما يزيدنا عمقاً في فهم جوهر الاسلام واستجلاء خوافيه وإظهاره للناس بعُري حقائقه الكريمة، وأعني بمظهره الحق، وهو مظهر بكرٍ فريد.
أما أن يقيم القاعدة على القاعدة، فمزلَقٌ خطر... وإذا قُدّر لهذا الأسلوب وانتهى الى شيء، فليس الا الى مسخٍ وتشويه".
تبدو الثورة واضحة في ما ذكر، من أجل تصويب الصورة، ومقاومة عمليات التشويه التي تراكمت عبر التاريخ. الهمّ عند العلايلي واضح: تظهير صورة منيرة تُفصح عن مكمن القوة في الاسلام، وإدخاله في إطار علمي رصين، يقارب الأمور في حقيقتها، ويتعاطى معها كما هي. إنه نوع من نزع الأسطرة عن الدين، الأمر الذي اختبرته المسيحية واليهودية من قبل حين تمّت مقاربة كل دين من زاوية علمية وموضوعية تستند الى ما تمّ التوصّل اليه من طروحات في علوم الانسان والمجتمع واللغة.
حارب التحنيط بقوة، وانتصب في وجه التجميد. اعتبر "أنَّ القُرْآنَ هُوَ مَصدَرٌ أَصلِيٌّ لِلْفِقْهِ بِخِلَافِ السُّنَّةِ وَلَا سِيَّمَا مَا لَم تَكُن مُتَوَاتِرَة". هذا التمييز بين النص الأول، والنص الثاني، بين الوحي، وتفسيره، بين ما أنزل وبين كيفية تلقّيه وفهمه، أمرٌ فيه الكثير من التمرّس في الفكر النقدي، ومن الرغبة الجامحة في استجلاء الحقيقة، بعيداً عن عمليات الإسقاط والتشويه التي تتعرّض لها من قبل بعض الممسكين بزمامها.
كان العلايلي منهمّاً بكيفية القيام بالتشريع انطلاقاً من المدى الأوسع وعدم التضييق على المشتغلين فيه ولجمِهم عن الإتيان بجديد. يبغي تحرير الفكر والمجتمع ومناهج السلوك من القوالب الجامدة، مستشهداً في هذا السياق بحديث شريف يقول: "إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدّد دينها". يرى في ما يحتويه هذا الحديث دستوراً كاملاً "لحركية الشريعة و"ديناميتها" في مجال صيرورة الزمن، فهي تجدّدٌ دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل، فشأنها أنها غضة الأماليد أبداً".
واضح كم أن العلايلي منسجمٌ مع القوانين الطبيعية والبيولوجية عندما يركّز على التجديد إذ يعتبره سُنةً تحكم الكائنات الحيّة وبخاصة الانسان. فالتجديد مسارٌ طبيعيٌ يرافق البشرية في تطورها وإنتاجها الحضاري. من هنا نراه يؤكّد على أن " لا قوالب ولا أنماط ولا مناهج ثابتة بل تبدّلية عاملة دائبة. وكل توقف في التكيّف داخل أطرٍ، يُصيب الأفراد والجماعات بتحجّر يؤول الى حتمية تخلّفٍ، بل انحدارٍ ذريع...".
إن تشديد العلايلي على أهمية التجديد والتغيير يتضمّن نقداً صريحاً لمن يهوى التقوقع ويطمئن الى السكون في التقليد. من هنا يبدو واضحاً كم أنه إبن بيئته، يترصّد الواقع من حوله، يتأمل في تبدّلاته، يحفر في أحداثه المتسارعة، ويستنتج الخلاصات النقدية اللازمة. هدفه إصلاحي، يضع الإصبع على الجرح العربي كما الإسلامي عندما ينتقد هذا الجنوح العارم نحو التحجّر والتمسّك بالنموذج الأسبق، وعدم السماح لشروط الواقع الجديد بأن تقول كلمتها. إن نظرنا في الشأن الإسلامي نلحظ أن الواقع يئنّ تحت وطأة صراعات دامية تتنافس في ما بينها لتثبت قربها من التقليد ووفاءها للماضي السحيق وانضباطها بالقوانين والأحكام الغابرة. لا يختلف الأمر كثيراً في ما يتعلّق بالشأن العربي، حيث الواقع المأزوم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، لكن النهج المتبع في العلاج لا يعطي للواقع حقه ولا يكترث بالتبدّل الحاصل، للأسف، ينحصر الأمر بالبكاء على الأطلال، والنعي، والتهجّم على الآخر الذي نضعه دائماً داخل دائرة الاتهام.
يرى محمد عابد الجابري في سياق تفكيكه للعقل العربي بأنه عقلٌ يحنّ باستمرار الى نموذجٍ سبق. إنه عقلٌ يهوى القياس، قياس الحاضر على الماضي، قياس الفرع على الأصل، لكي يتمّ إصدار الحكم واتخاذ القرار. وكأن العربي لا يثق بحاضره، أي لا يثق بنفسه البتة، يحتاج دوماً الى مرجعية تراثية تأذن له بالقيام بأفعاله، أو تحكم له بالصواب والخطأ، فتوجّه خطواته باعتباره قاصراً على الدوام. يعلن بصورة دائمة تفوّق الأجداد على الأباء، والآباء على الأبناء. ثم يستنتج الجابري أن العقل العربي عقل قياسي، عقلٌ يسكن الماضي، ويغترب عن الحاضر. يمجّد الماضي، ويحتقر الحاضر.
لم يشأ العلايلي الاكتفاء بالنظر التقليدي الى الدين، انما راح يقاربه من زاوية فكرية منفتحة على المجتمع والتاريخ والانسان. انتفض في وجه التخلّف والتقوقع، فشكّلت الثورة نهجاً واضحاً في مختلف مقارباته الفكرية. نظر الى الإنسان في جوهره، في عمق قيمته، وليس انطلاقاً من انتمائه الطائفي أو العقيدي. قناعاته راسخة بأهمية التنوّع وما من شأنه أن يُسهم به من انفتاح وغنى ودعوة الى إبحار متجدّد نحو أفق الانسنة. منفتحٌ على قبول التعدد، قارب باحتراف ظاهرة الاختلاف. تنبّى شعار أحد المتصوفين في ما يتعلّق بالبحث عن الله: "الطرائق بعدد أنفاس الخلائق"، فلم يقبل بحصر النهج المؤدّي الى الحق بزاروب واحد، لأن المدى رحب، والمسافرون فيه كثر، وما على الإنسان الا أن يجتهد في إيجاد السبيل الأفضل للبلوغ الى الهدف المنشود.
الانسان بالنسبة الى العلايلي هو القاعدة التي تُبنى عليها مسألة الهوية، الى أي دين أو مذهب انتمى. دفن الطائفية وقهر التعصّب في سبيل إرساء قواعد متينة لمصالحة الدين مع الحياة. في نظره، لا تتفق الأنسنة مع التخشّب القابع وراء النص الفقهي بعامة، كما أنها لا تقبل بالتحجر الراسخ في الخطاب الأيديولوجي الضيق. إعداة النظر في الأحكام والأقوال والأفعال لا تعني أبداً الخروج عن الدين، إنما هي خطوة معرفية واجبة وضرورية من أجل تحقيق المعرفة. بات من الملح فعلاً بنظر العلايلي مصالحة الدين مع الحياة، وإرساء العلاقة الموزونة بين الأمس واليوم، بين التقليد والتجديد. كما أن شعاره المعروف خير دليل على ذلك:  "لَيْسَ مُحَافَظَةً التَّقْلِيدُ مَعَ الخَطَأِ؛ وَلَيْسَ خُرُوجًا التَّصحِيحُ الَّذِي يُحَقِّقُ المَعْرِفَةَ".
يميّز العلايلي في إطار حديثه عن الدين الطبيعي بين مفهومين للدين قائلاً: "الدين في منطق رجاله غير الدين في منطق الله وكتبه، ونحن لا نريد أن نتعرّف الى الأول، ونودّ أن نعرف الثاني".  انه يصرّ على التفريق بين هاتين المقاربتين لكي ينصف الدين ويُظهر ما تعرّض له من تشويه.
يعتبر أن الدين من منظور رجاله أسهم في تعميق الهوّة بين الطوائف والجماعات، وذلك على الرغم من "أن تعاليم الأديان تغرس مبادئ مثالية صالحة تُعدّ الانسان إعداداً حسناً للعيش مع أخيه الانسان، فكيف مع مواطنه".  لكن تدخّل رجال الدين الذين يصفهم بـ"ذوي الأثرة من الأشخاص" أدّى الى السيطرة على المؤمنين، مسخّرين الدين لإرضاء جشعهم ولخدمة نفوذهم. إنتبه رجال الدين الى أن هذا الأخير، أي الدين، يشكّل أقوى وسيلة للدخول الى النفس الانسانية، فاستغلّوه عن طريق النفخ "في بوق الاختلاف"، وتمكّنوا من خلق الشقاق خدمة لمكانتهم ومصالحهم الشخصية. راحت جموع المؤمنين تتنازع وتتناحر ليس في سبيل الدين، والايمان الحق، وإنما قدّموا أرواحهم على مذبح أهواء رجال الدين الضالّة. هنا يكمن جوهر المشكلة التي تصدّى لها العلايلي من وجهة نقدية. لم يقبل بالرضوخ لعملية تحجيم الدين، وسجنه في إطار مؤسّساتي ضيّق، له شروطه، وظروفه، ومصالحه الخاصة.
لذا يفضّل العلايلي التحدّث عن الدين الطبيعي، "لأنه ينبع من أعماق جوهر النفس، ولأنه صاحَب الانسانيةَ منذ فجر خروجها من الكهف، ولأن الأديان عامة اتفقت على قضاياه، وقرّرتها كشيء جوهري".  يرى أن الدين الطبيعي هو "رمزٌ قمينٌ" بأن يسكب الروح في عمق القومية العربية، وهو من شأنه أن يعين فكرتها على اختراق التجرّد والتحليق في رحاب السموّ المثالي. يرى أن المناداة بالدين الطبيعي لا تعني البتة ابتداع دينٍ جديدٍ، ولا رفض الدين المنزل، إنما يفهم الدين الطبيعي باعتباره "مقدمة الى كل دين"، وليس "ديناً مستقلاً له طقوسه وشعائره". نجده يؤكّد في هذا السياق على أن "المسلم يجد في الدين الطبيعي مقدمة الى الإسلام وكذلك المسيحي".
يركّز العلايلي على أمر مهم يريد من خلاله أن يشير الى أن الدين لا دخل له بالقومية، لكنه في الوقت عينه يفسح للدين بـ"أسمى محل" في عمق القومية، وذلك من أجل ترسيخ المُثُل السامية. يضيف قائلاً: "وأستحسن في كتب الدين الطبيعي أن تكون الشواهد من كتب الأديان الثلاثة في كل قضاياه الاعتقادية والأخلاقية، وبذلك يجد الناشئ ائتلاف الديانات واعتناقها اعتناقاً عملياً صحيحاً، فيندكّ الصرح الذي جهد بإقامة دعائمه رجال الدين المغرضون".
واضح هنا الهمّ التربوي عند العلايلي، فهو يريد من خلال تنشئة الأجيال على الدين الطبيعي أن يقفل الطريق أمام التعصّب والتقوقع ونفي الآخر وتكفيره. إنه يبدو في هذه النقطة تحديداً صاحب رؤية، منفتحاً، رافضاً الغرق في القشور والاكتفاء بخطابات المغرضين من رجال الدين الذين يبتهجون في تحقيق الشرخ، واحتدام الخلاف، إذ ان في ذلك مبرّراً لوجودهم. إن التحدّث عن الدين الطبيعي في وسط الكلام على القومية هدفه الحفاظ على القيم، والفضائل، وآداب التعاطي مع الآخر، وإبراز ما هو مشترك بين الأديان، علّها تنتفي بذلك أسباب الصراعات الدموية والعبثية.
يحضرني هنا الكلام على المشروع الذي تقدّم به محمد أركون للرئيس ميتران في فرنسا، يوم كان رئيس قسم الدراسات الاسلامية في السوربون. كانت لمحمد أركون نفس الرؤية، ونفس الهمّ الذي رأيناه عند العلايلي. أراد أن يجمع في اختصاص واحد تاريخ الأديان المقارن، لكي يقدّم نظرة علمية وموضوعية عن مسعى كل دين لبلوغ الحقيقة. سعى من خلال طرحه الى أن يبرز المشترك بين الأديان إن على صعيد المنهج، أو الأخلاق، أو السلوك، أو التصورات الماورائية، أو استخدام الرمزية، ودور السياسة وأثرها في السلطة الدينية، وغير ذلك من أمور جوهرية يمكن أن نجدها في كل دين. ركّز في كتابه "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية" على الأزمة التي يعيشها العالم العربي الاسلامي المعاصر بسبب الانغلاق داخل السياج العقيدي الضيّق الذي يوفّر مناخاً للتباعد والتخاصم ورشق من هو مختلِف بأبشع التُهم. لذا يصف أركون تصوّره الخاص بالأخلاق بأنه "تصور نقدي بشكل راديكالي". يقصد بذلك "أنه لا يحصر نفسه بتعاليم دين محدّد يعتبر نفسه أفضل من كل الأديان الأخرى، كما لا يحصر نفسه بذلك التصور الدوغمائي الضيّق للأنوار، ذلك التصور المضاد بشكل فج للأديان التقليدية من دون أن يُكلّف نفسه عناء المرور بمرحلة النقد الذاتي أو تطبيق المراجعة العقلانية على نفسه".
 كذلك نجد أركون يشير الى أمر لا يتعارض فيه مع العلايلي بخصوص الأديان قائلا: "جميعنا مسجونون داخل طوائفنا واعتقاداتنا ويقينياتنا المطلقة التي تمجّد الذات وتبجّلها وتعتبرها حقيقة مطلقة، في الوقت الذي تُحتقر فيه عقائد الآخرين وتعتبرها محرّفة أو مزيّفة أو باطلة".
يلتقي العلايلي مع محمد أركون في هذا السياق معلناً: "نحن في الواقع لا نشكو مرّ الشكوى من داء الأديان ذات الأسماء المختلفة، وإنما نشكو من داء زعامة الأديان الشهوانية المغرضة الماثلة في أشخاص شهوانيين مُغرضين، وإلا فالمسيح جاء بمبدأ السلام العام الذي يحبّب المسيحي المتّبع للشريعة وحدها الى كل قلب؛ ومحمدٌ جاء بمبدأ السلام العام المشتق من السلام أيضاً، ولكن زعماء الأديان لا ندري بأي وسائل جهنّمية استطاعوا أن يجعلوا السلام حرباً، ويحوّلوا غصن الزيتون سيفاً قاطعاً في أيدي الجمهور الساذج".
هذه المقاربة النقدية لما فعله رجال الدين بجوهر الدين تُفصح عن جرأة صاحبها، وانفتاحه، وعمق نظرته. ليس من المألوف أن نجد إنساناً كالعلايلي له رمزيته ومكانته يقوم بنقد الدور السلبي لرجال الدين، مميزاً بين الدين الطبيعي والدين المؤسساتي، مظهراً الأذية التي تسببوا بها على أكثر من صعيد. مدّ جسور التلاقي بين ما يبدو مختلفاً. وجّه إصبع الاتهام نحو المنطقة المحرّمة. لم يشأ المراوغة ولا المهادنة. همّه معرفي، إتجاهه اصلاحي، منهجه نقدي محترف. يلحظ بوضوح أن "كل تنازع وقع في الوطن العربي، إذا درسناه في جوهره، ظهر أنه بأصابع رجال الدين وتشجيعهم". يوجّه اليهم القول صراحة: "إن الأديان اتفقت في الجوهر والأهداف، واختلفت في الوسائل والطرق فقط، والاختلاف في الوسائل لا يكون سبباً في الاختلاف، فليتّبع كلٌّ منا طريقته في الاتصال بالله الذي هو حقٌ للجميع".  لا يكتفي بهذا الحد إنما نجده يصعّد النقد مطالباً رجال الدين بوقف "التغرير بالجمهور الساذج"، ويطلب منهم أن يستعدّوا وحدهم لخوض "معركة السماء المستقبلة، فإننا جميعاً على الأرض متفاهمون".  
يمكننا أن نستخلص من خلال ما قدّمه العلايلي التحديدات الآتية لمفهوم الدين انطلاقاً من بُعديه الفردي والجماعي:
1- الدين في جوهره لُبانة كل نفس وينبوع الالهام ومصدر التأملات التي تغمرها نشوات خفية لاذّة.
2- الانسان كائن معتقد بفطرته، لذا منبت الدين ضرورة فطرية وحالة تطمئن اليها النفس.
3- الدين حقيقة أفضت بالانسان الى بلوغ حدّ التفريق به بين الخير والشر من تلقاء نفسه.
4- الدين صلة تربط الفرد بالمجموع. انه القانون الأدبي الذي يترك للإنسان أقصى حرية معقولة في اختيار طريق حياته.
5- الدين مبدأ لتزكية النفس يُعدّها للقيام بواجبها في الحياة الاجتماعية، ويُحرّرها من المنفعة الشخصية.
6- قوة الإحساس الديني في الجماعات غايتها الرقي الاجتماعي لأنه يقوي الغيرية ويضعف الانانية، وذلك عن طريق إنكار الذاتية الفردية في سبيل المجموع.
7- الدين يعطي الانسان القوة التي يُخضع بها عقليته لإحساسه بالشريعة الأدبية أو لشعوره بالواجب تجاه الجماعة. فالدين يزوّد الانسان بوازع أبعد من عقليته، يضبط سلوكه نحو المجتمع، في حال تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة المجموع.
خلاصة القول، نجد أن العلايلي يحصر تعريفه الدقيق بالدين في نقطتين وفق ما يأتي:
"الدين عقيدة تتلخّص في أمرين اثنين لو جمع الانسان بينهما لكمُلت ذاتيته بصفته فرداً صالحاً من جماعة تضرب في أصول الارتقاء بسهمٍ بعيد:
(1) الاعتقاد بوجود قوة مدبّرة حكيمة عالمة سرمدية لا تدرك حقيقتها العقول البشرية.
(2) إن الدين شريعة أدبية تؤدّي بصاحبها الى أبعد غاية من الارتقاء، وإجلال المثل الاأعلى من الأخلاق ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة".
من هنا نجد العلايلي لم يكتفِ بنقد رجال الدين كونهم قاموا بتشويهه، إنما يتوجّه أيضاً نحو بعض الفلاسفة الذين قاوموا روح الدين، وجعلوا العقل حدّ الدين، فخرجوا عن شعور الجماعة وروحها الأدبية، فقتلوا بذلك دين الطبيعة. ينتقد الفلاسفة الذين جعلوا من "عقل الانسان وحده هادياً ومرشداً أميناً، بحيث يختطّ لهم خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تَحفظ نظام الهيئة البشرية المدعّمة على أساس الإحساس الأدبي، فأُخفقوا سعياً وضلّوا سبيلاً".
من الملفت هنا أن العلايلي لم يعيّن أسماء الفلاسفة الذين تعرّض لهم بالنقد، ولم يُحدّد بالضبط كيفية إخفاق هؤلاء في نيل مبتغاهم، لكنه يذكر تالياً أنه يقصد بهم "زعماء المادية" والوضعيين. نجده يشدّد من خلال نقد الفلاسفة الماديين على أمر بغاية الأهمة يسمّيه بـ"وازع ما بعد العقلية"، وهو الذي يتكفّل بضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات. لذا آمن به الناس باعتباره أول عنصر من عناصر المعتقد الديني. من هنا توقه الى المنحى الفطري أكثر من المكتسب، وتشديده على الدين الطبيعي الذي يتفلّت من ضوابط العقل الصارمة التي قد تشوّه "الغريزة الإنسانية التي هي أصل الدين"، وفق ما أشار اليه علماء الاجتماع، على حدّ تعبير العلايلي. ويضيف نقلاً عنهم: "ما من معتقد من معتقدات الانسان في مقدوره أن ينقلب في نظر الفرد ديناً يدين به مع خضوعه لتطور المجتمع ذاته، ما لم يكن من طبيعته أن يهيّئ الفرد بوازع مما بعد عقليته يضبط سلوكه نحو الجماعة التي يلحق بها، أو بالكل الاجتماعي في مجموعه؛ وإن الاعتقاد بإمكان وضع دين يرجع الى العقل وحده، بحيث يكون في مستطاعه أن يضبط علاقة الفرد بالجماعة حال تطورها، وهي متطورة على الدوام، أمرٌ مستحيلٌ علمياً وعملياً".
من الواضح هنا تركيز العلايلي على البعد الاجتماعي للدين، وعلى الدور الذي يلعبه في ضبط سلوك الفرد وحفظ حقوق المجموع، عن طريق إخضاع المصالح الخاصة للمصالح الاجتماعية العامة. ان في هذا التحديد للدين دليل واضح على البنية المعرفية للعلايلي التي تلتقي الى حد بعيد مع علم الاجتماع والانتروبولوجيا والفلسفة في مقاربة الدين. كذلك نلفت الانتباه الى أن العلايلي لم يكتف بالتحديد التقليدي للدين، ولم يحصر مقاربته بالمنحى الروحي فقط، انما حاول الاحاطة بموضوعه من أكثر زاوية، متميّزاً في ذلك عما قدّمه الآخرون من تعريفات تقليدية ومقاربات ضيّقة محصورة بمدرسة دينية معينة أو بأخرى.
لم ينهمّ العلايلي بالدين الاسلامي فقط، انما درس الدين بعامة، باعتباره ظاهرة اجتماعية، وكأننا به يضع كل الأديان على مستوى واحد، من خلال التوقف عند الدور الذي لعبوه في حياة الفرد والجماعة على حدّ سواء. لم يقبل بإجحاد الماديين بالدين، كما رفض التعريف الضيّق لرجال الدين. لم يتموضع في مكان واحد يقارب من خلاله ظاهرة الدين في المجتمع، إنما نراه قد حاول الاستفادة من أكثر من نظرية، لكي يحيط بموضوعه قدر المستطاع. ميّز بقوة بين الدين ودوره في المجتمع، باعتباره من "الضرورات الاجتماعية"، من جهة، وبين الممارسات الدينية، والواجبات والفروض والمعتقدات التي تميّز كل دين عن الآخر، من جهة أخرى. هذه النظرة الى الدين تجعل العلايلي واثقاً من أن الماديين لن يجحدوا بها، كونها ترتكز على الواقع المعيوش، على الطبيعة البشرية والاجتماعية، على الواقع الانساني عبر التاريخ. من هنا نجده يسأل ختاماً، ويدلي بالجواب الحاسم وفق ما يأتي: "هذا هو الدين وأثره، فهل يجحده بعد ذلك الماديون؟ وهل في الامكان إقامة صرح قومي بعيداً عنه؟ أظن الجواب سلباً؛ فإنه ما من مدنية قامت في التاريخ إلا وتركّزت على رمز أدبي خالد، فإذا مال الى الانحلال كان نذيراً بانحلال المدنية وتقلّصها وتداعيها المحتوم".  
واضحٌ مما تقدّم، كم أن دين العلايلي منغمسٌ في الحداثة الفكرية، ومتآلف مع النقد، وإعادة النظر المتتالية بالثوابت، والخرق المتكرّر للحدود الضيقة، والتفلّت من القهر والاستعباد. لذا من الضروري أن نطرح تالياً سؤال المنهج، لنبحث في ما يكمن وراء هذه الجرأة، وهذا الانفتاح اللذين لا نعثر عليهما لدى الكثير من المتديّنين ورافعي لواء الدفاع عن الدين الحق. ما أهمية المنهج النقدي في مقاربات العلايلي للمسائل الفكرية؟ كيف انبنت مداميكه؟ وما هي أبرز تطبيقاته؟

2- أسس المنهج النقدي عند العلايلي: دراسة المعري نموذجاً
"ليست تمنعني غرابةُ رأيٍ أظن أنه صحيح أو أعتقد صحتَه من إبدائه، كما لا يحولُ بيني وبين رأيٍ أنه قليلُ الأنصار. فإن الحقيقة لم تعُد تُنال بالتصويت، كما أن الانتخاب من عملِ الطبيعةِ وهي لا تُغالط نفسها كما لا تَعمد الى التزوير".
يبدو أن التنظير في مسألة المنهج من خلال وضعه تحت مجهر التساؤل والمراجعة الدائمة، قد جعل المعرّي يعيد النظر في أمور عدّة، كانت تُعتبر من الثوابت المتعارف عليها. يمكن أن نلحظ أن انشغاله بتحديد الدين، وما توصّل اليه من تعريفات، كان ثمرة هذه الرؤية المنهجية الحديثة التي تعتمد النقد سبيلاً، والمساءلة أداةً، وإعادة النظر في ما هو مألوف مسلكاً ضرورياً.
لم يغفل عبد الله العلايلي عن التوقف عند المنهج باعتباره الطريق الموجّه لأي مقاربة فكرية. نراه عندما يبدأ بدراسة فكر أبي العلاء المعرّي،على سبيل المثال، يعرض لأهمية التساؤل حول المنهج، إذ إن في ذلك خطوة هامة تحدّد مسار الدارس لأي موضوع فكري يختاره. يقول: " على أن من المفروغ منه، أن من درس أي إنتاج، فنيّاً كان أو أدبياً، فلسفياً أو علمياً، يقتضينا الطريقةَ أو المنهجَ قبل كل شيء، وهذا بالتالي يضعنا أمام نتائج معينة، وإن بدت متفاوتة، لأن مردّ تفاوتها، من بعد، قدرة الباحث على التناول. أما إذا كان العكس، أي بحثٌ ولا منهج، فهناك الارتجال والابتسار".  
واضح هنا قلق العلايلي المعرفي، وابتغاءه الدقة والرصانة العلمية في البحث. انه ينتقد الدراسات التي يصفها بـ "غير الممنهجة"، حيث نجد أن الدارس ينهمّ بإبراز نفسه، فيسمح لها أن تُلفّق الدراسة التي ينوي أن يقوم بها كما يريد، فيقدّم النتائج التي يجدها هو مناسبة. لذا قام العلايلي بنقد قسم كبير من الدراسات التي أنجزها كثيرون قبله حول فكر المعري، نظراً الى أنها خالية من "طريقة منهجية تحرص على اتجاه بعينه، فكانت مميّلة بين فروض شتّى ألقت بنا من ورائها في تخبّط كبير، زادنا بالمعري وحشة واستخفاء...".
كذلك عندما يتوقّف العلايلي عند التاريخ العربي نجده ينتقد المؤرخين المحدِثين ويلحظ إخفاقهم لأنهم لم يوفقوا "الى إقامة التاريخ العربي على سنة منطقية وقاعدة نقدية، تحتفل بتبيان العوامل التي من شأنها أن تهيّئىظروف التاريخ المختلفة، وتحدّد له الاتجاهات، وتفرض عليه الحركة  حين يجب أن يتحرّك، والسكون حين ينبغي له أن يسكن. هذه الدوافع التي نصل بها الى تمام الغرض العلمي اذا ما أعطيناها كلمة "الحيوية التاريخية"".
لفتني نص لدى العلايلي يتوقّف فيه عند مصطلح الارتياب في سياق حديثه عن أهمية الثورة والفوضى، حيث يبرز أهمية الشك كنهج في التفكير، وكمحفّز على الابداع والتغيير. يقول: "وكلما كانت الامة أكثر ارتياباً في المثل كانت أحيا وأغزر إنتاجاً. وهذا تفسير ندخل به على كل شُعب المعرفة أيضاً، فنظرية كوبرنيك في النظام الشمسي ارتياب في المَثَل الفلكي، ونظرية ديكارت ارتياب في المثل المنهجي،(...)، وكذلك نظريات داروين وكانت وماركس، وهذه ثورات علمية وأدبية لأنها تُداور فكرة بعينها في محاولة الوصول اليها. وإن أفكار أبي العلاء ارتياب في المثل الدينية والأوضاع، وأفكار نيتشه ارتياب في النظام العام، ونظرية اللاأدرية ارتياب في عناصر الفكر المنطقي، وهذه فوضى في الفكر لأنها لا تتمثل هدفاً معيناً".
نجده هنا يثمّن الارتياب ويجعله في أساس التطور والتقدّم والعمل على إيجاد حلول للواقع المأزوم، وهو في ذلك يتوجّه عربياً واسلامياً ليلفت الانتباه الى ضرورة الغوص في بحر الارتياب من دون خوف من الفوضى ولا من الثورة لأنهما تحفّزان على التفكّر والإبداع.
إن التحدّث عن النقد في فكر العلايلي يفتح لنا مجالات اشتغال عدّة، لن نغوص فيها في هذه الدراسة، لكننا أردنا أن نلفت الانتباه الى الهاجس النقدي لديه، والى يقظة إحساسه بالخطأ، ورغبته في تقديم ما هو أفضل. لذا، نرى أنه عندما أراد أن يكتب تاريخ الحسين، كما عندما أراد أن يدرس فكر المعري، توقّف في الحالتين عند مسألة المنهج، أي عند كيفية كتابة التاريخ، وعند شروط دراسة فكر كاتب ما. لقد قام في الحالتين، دراسة تارخ الحسين وفكر المعري، بمراجعة الموازين المتّبعة، والمعايير المعتمدة من قبل. أعاد الأحداث الى البيئة، والمجتمع، كما أعاد تحقيق النص والتحقّق منه، لذا لم يكن الشك عنده أمراً محرّماً ولا مستبعداً، إنما خطوة منهجية لا بدّ منها من أجل الكشف عن الحقيقة وتنقيتها مما أصابها عبر الزمن من تشويه. في ما يتختصّ بكتابة التاريخ، نلحظ العلايلي يرسم منهجاً من أربع مراحل، تبدأ بالتجميع، فالنقد، ثم التأويل، لتُختتم بصياغة القصة التاريخية.
لن نتوقف هنا كما ذكرنا عند كيفية مقاربة العلايلي لتاريخ الحسين بخاصة، ولمسألة كتابة التاريخ بعامة، لأننا سنكتفي بما قدّمه من تنظير بخصوص موضوع المنهج انطلاقاً مما توصّل اليه في سياق بحثه في فكر المعري. لذا سنتوقف في نقطة أولى عند المنحى النظري، وكيفية مقاربة العلايلي لمفهوم المنهج بعامة، وللمنهج النقدي بخاصة، ومن ثم سننتقل الى المنحى التطبيقي لكي نرى كيف استخدم العلايلي ما سبق أن حدّده ضمن تصوّره الخاص لنظرية المعرفة عند المعري.


أولاً: المنهج موضوعاً للتنظير
نلحظ أن العلايلي من خلال نقده للدراسات السابقة حول المعري يكشف لنا عن منظوره الخاص لمسألة المنهج. يبدو جلياً أنه يشدّد على بناء أي دراسة وفق "طريقة منطقية أو موضوعية يستقيم لها أن تُفرغ من صيغ منهجية، من شأنها أن تُسلِمنا الى نتائجها إسلاماً عفوياً، في اتفاق أو اختلاف يسير".   
يشير في السياق نفسه الى أهمية الطريقة التي توجّه دراسته وذلك أكثر من الدرس نفسه، ما دام أن هذا الأخير لا يعبّر الا عن جهد شخصي، وهو برأيه "لا يكون مشتركاً، فكيف يصلنا ممن ندير البحث عليه، في قطع وتأكيد.
أما حين يدخل الدرس، أي الجهد، عنصر الطريقة، فمعناه أن الجهد الشخصي انطلق من قاعدة موضوعية، وتخصّب بنواة تخمّره، وقيمتُه تكون بمقدار اتصال هذه الظاهرة، ظاهرة التخمر، في نواحي الدرس أو عدم اتصالها".
ان هذا التنظير لمفهوم الطريقة يشير الى انهمام صاحبه بالموضوعية وعنايته بالمنحى النقدي. انه من دون تردّد يختار الدقة سبيلا في دراسة أي فكر، لذا يفضّل الكلام على المنهج الذي من خلاله تتم مقاربة موضوع الدراسة. نرى أن في ذلك إشارة واضحة الى تكوين العلايلي المعرفي، ومدى حرصه على تقديم أعمال فكرية مُمنهجة، لا تضيع في فوضى الإرتجال، والتسرّع في الحكم على الأمور. يلحظ أن هناك في دوائر البحث على تنوعها "اهتماماً أشدّ بالطريقة، ولذا نحسّ عند النقد أيضاً، تحت هذه الرغبة، بميلٍ ملحّ الى تصنيف الأدباء مثلاً ضمن مدارس، ليكون نقدهم أكثر تحديداً للطريقة وإلماماً بها. وبديهي أن الدارس لن ينتهي الى فهم حقيقي لأي أديب من أية مدرسة، إذا لم يكن ملمّاً بمناهجها التي استنّها أسلوباً وسبيلاً الى التوليد والإبداع".
من البيّن في هذا السياق كم أن العلايلي يتمتّع بوضوح الرؤية، وبالنظر المنطقي، كما أنه يحرص على اعتماد منهج دقيق في عملية توليد الأفكار وإبداعها. إن في ذلك إشارة واضحة الى تركيبته المعرفية التي تحارب الشطط والضياع والإنفلاش في المسائل المعرفية. حتى الإبداع والعبقرية يخضعان بالنسبة اليه الى نمط خاص من الطرق والمناهج. فهو يرى أن العبقرية في حدّ ذاتها هي عملية تحرّر من قيود طريقة معينة، والتفلّت من قبضة نهج محدّد، وذلك عن طريق شقّ طريق خاص يلتزم بها المفكر في أبحاثه. بتعبير آخر، حتى الإبداع نفسه لا يتمّ خارج عن إطار المنهج. يضيف قائلاً: "وربما كانت الطريقة أهمّ نواحي العبقرية فيما تهدّت اليه، وهذا جليٌّ كالضحاء، فما من عبقرية إلا وأبرز ما فيها الطريقة التي تحضّ على منهج في الفكر، لا يلبث حتىى يغدو طابعاً ثابتاً يمدّ الأحياء وأفكارهم بألوان جديدة، ويُغريهم بأشياء من الخلق والابتكار".
يعود العلايلي الى الفلسفة اليونانية لكي يلفت الانتباه الى أن عظمة ارسطو لا تكمن فقط في "التفسير والتعليل الفلسفيين"، إنما تظهر أيضاً في "طريقته المنطقية" التي أسست للنظر الفكري المجرّد. لذا فهو يرى أن العمل على إيجاد الطريقة الأنسب لاختراق فكر أي عبقري يشكّل العملية الأصعب، والأهم، والأكثر إلحاحاً. من هنا يعتبر أن فهم أي أديب أو فيلسوف لن يتحقّق طالما أننا لم نتمكن من الغوص في الطريقة التي اعتمدها في أبحاثه، والتي وجّهت مساره الفكري. "حتى أن الطبيعة نفسها، وحتى جهدنا الفكري الكادح حيالها، بل كل ما أعطى الفكر البشري ويعطي من إنتاج فلسفي وعلمي وحيوي واجتماعي وفنّي، ليس أكثر من أنه بحثٌ في الطريقة الثابتة في الطبيعة والحياة والفكر، الذي أبدع في نفسه المجهول والمطلق والتجريد...".
انطلاقاً مما تقدّم، نجد العلايلي يشير الى أهمية القيام، في ما يتعلّق بفهم المعري، بالجهد الكافي في سبيل الكشف عن طريقته الفكرية والتمكّن من استخدامها لكي ننجح في الوصول اليه والولوج الى عمق فلسفته. ويرسم خطته المنهجية لبلوغ الهدف وفق الخطوتين الآتيتين:
أولاً: بذل الجهد الكافي من أجل الإبانة عن الطريقة النظرية التي فكّر بموجبها المعري.
ثانياً: الإنهمام بشرح أفكاره وعرضها وفق الطريقة المعتمدة من قبله وما بذله من جهد، مع الأخذ بالاعتبار محدودية الخيارات المتاحة.
يذكر العلايلي ما أورده سابقاً في كتابه "دستور العرب القومي" حول خطواته المنهجية مشيراً الى أنه كان يعمد الى عرض شروحه "عرضاً خالصاً دون ما تحكّم"، إذ يرى في التحكّم "إغفالاً للعقل العام وتغريراً بالنفوس المتفتّحة المتقبّلة، ودون ما تحدٍّ لأن الصراع الفكري يفقد روعته وجلاله في عصبية الرأي ونزعات الشخصية". ويتابع مركّزاً على قيمة النقد قائلاً: "المصنفون الذين يحترمون الاستعداد الانساني لا يكتبون لكي يتابعوا، بل ليصححوا تفكيرهم بالنقد، والتفكير العام الشائع أيضاً. ولا ينقدون لعبث أو شهوة، لأن النقد الشهوي يبلبل فكر الجمهور، ويلقيه في حيرة مما ينبغي أن ينقتنع به ويضيفه الى مجموعته العقلية".
يلحظ العلايلي في سياق تقديم المنهج الذي سيدرس من خلاله فكر المعري، أن أي مفكر سبق له أن ترك لنا نتاجاً معيناً فهو، أي هذا النتاج، بمثابة أحرف الأبجدية التي سيستخدمها غيره. بتعبير آخر، لا يمكن لأحد إلا وأن يتأثر بفكر غيره، فيأخذ عنه، أو يردّ عليه، أو يتفاعل معه. لذا كان على الدارس أن يقبل بعملية اتصال المفكر بالثقافات الأخرى ويقرّ بها كمعطى بديهي لا بدّ منه، من دون التوقف عند التفاصيل الضيقة وملاحقة كل فكرة من مصدرها للإشارة الى حضورها لدى المتلقّي، لأن في ذلك دوران حول النفس من دون جدوى، وهو بمثابة الجهد الضائع. يرى أن منابع الفكر وأصوله متعدّدة ومتشعّبة ومتداخلة في آن، وهي كأحرف الأبجدية، ما إن تُنتج حتى يتلقفها الآخرون ويستخدمونها لكي يقوموا بدورهم بتركيب كلمات وبالتالي عبارات ذهنية جديدة، لا تخلو من الإبداع.
يؤكّد العلايلي على "أن كل ما سبق وأعطاه المفكرون من إنتاج، يؤلّف "أبجدية للفكر" مثل الألفاظ تماماً، والذين يلون فيُركّبونها ألفاظاً فكرية في دورٍ، وجملاً فكرية في دور آخر، وتراكيب أسلوبية في دورٍ فوق ذلك، وأيضاً يَمضون فيقرؤون بها منتجات الأفكار، المتّصلة التوليد، الدائمة الابتكار. (...)
فما من فكر متميّز الا وهو متأثّر بقصدٍ ودون قصد، وما من فكر متميّز الا وهو مبتكِرٌ في نسب كبيرة أو قليلة، واسعة أو ضيقة".  
هذه الرؤية المنفتحة التي تخرق الآفاق الضيقة لتعترف بكونية الفكر، وبسَفر الإبداع في تنقّلٍ لا يستكين، تفضح لدى صاحبها نوعاً من الارتقاء فوق الحدود التي غالباً ما تحجّم المفكر، وتحصره في أطر خانقة. إن المنهج الذي اتّبعه العلايلي في دراسة المعرّي، أراده منفتحاً، لا يدور في خضمّ البحث عن مناحي التأثر البارزة هنا أو هناك بإخوان الصفا أو بغيرهم من المفكرين الذين سبقوه، إنما المهم بالنسبة اليه، التوقف عند رصد مكمن الإبداع لدى المعري. بالنسبة الى العلايلي، تأثّرُ أي مفكر بآخرين سبقوه أو عاصروه، أمرٌ مفروغ منه. فالكاتب في النهاية لا يمكنه أن يصوغ جملة واحدة من دون أن يستعين بأحرف وكلمات وعبارات سبق لغيره أن أنتجوها، لكن المهم عنده هو كيفية استخدام ما سبق إنتاجه كأداة لإنتاج ما هو جديد. هذا ما ركّز عليه في مقاربة فكر المعري. يشير في السياق عينه الى أهمية الكشف عن مكمن الإبداع لدى المفكر موضوع الدرس قائلاً: "وليس يهمّنا أن نعرف عند من ندرسه أقاليمَ الأفكار وآباءها، بمقدار ما تهمّنا معرفة كيف استحالت هذه الفكرة وتخلّقت في وجودٍ آخر، وكيف استوت وهي مثل خلايا في كائن فكري جديد".  
من الملفت فعلاً أن نجد هذا الانهمام بما هو جديد، بما يُدهش، بما هو ثمرة تجسّد القديم بكيانٍ جديد. إن فعل التحوّل الذي تشهده الأفكار عبر التاريخ، وفي التنقّل من بيئة الى أخرى،  أمر يستدعي التنبّه والدراسة. كما أن الحركة التي تقوم بها الأفكار في تنقّلاتها لم تعد هي محطّ الاشتغال عند العلايلي، بل ما ينتج عنها، أي ذلك "الكائن الفكري الجديد". يبرهن العلايلي في كتابه كيف أن المعري قد "تجاوز جميع الطرائق والمناهج النظرية وما اليها – من كل ما رتّب وقَدّر الفكر البشري – أي الى اللغة ونواميسها وعلاقات ما بينها، ودخل بها الى المجهول الكوني والغيبي. فأدرك، وأدرك كثيراً، واطمأنّ، واطمأنّ كثيراً أيضاً، واتخذ من أوهام الناس أُلهِيَةً تمدّه بالعبث والنشوة الساخرة، وموضوعاً للنكاية في التعريض".

بعد أن توقفنا عند المقاربة النظرية للمنهج من منظور العلايلي بإمكاننا أن نطرح سؤال التطبيق، بتعبير آخر، هل اكتفى العلايلي بالتنظير لمسالة المنهج أم أنه قام بخوض غمار التطبيق لينتقل من المنحى النظري الى المنحى العملي؟ وبالتالي، هل إن هذا التنظير أتى بجديد عندما وُضع على محك الإختبار والممارسة الفكرية؟



ثانياً: في دراسة المعرفة عند المعري
لم يكتفِ العلايلي كما أسلفنا بالتنظير للمنهج، إنما قام بتطبيق ما توصّل اليه نظرياً على موضوع درسه. ففي مجال التاريخ على سبيل المثال، عزم على إعادة صياغة تاريخ الحسين، كما تاريخ العرب، وفي مجال الفلسفة والأدب فقد أعاد قراءة فكر المعري، وكشف عن أمور ملفتة، نحاول في ما يأتي تسليط الضوء على أبرزها.
يهمّني بداية أن أشير الى أن العلايلي درس مجمل فكر المعري في كتاب مؤلّف من 22 فصلاً، وممتدّ على 212 صفحة، عنيت به: "المعري ذلك المجهول، رحلة في فكره وعالمه النفسي". قام بسبر أغوار العصر الذي نشأ فيه المعري، كما استكشف أصول الفلسفة الجديدة التي ظهرت في كتاباته، وما أفصحت عنه من أفكار، جاءت واضحة أحياناً، ومتخفّية أحياناً أخرى. لن أستعرض هنا مجمل ما تضمّنه كتاب العلايلي حول المعري، لكنني اخترت فقط نقطة واحدة، وهي تنحصر في كيفية مقاربة العلايلي لـ"نظرية المعرفة" عند المعري: كيفية تتبّعها، وأبرز ما اجتذبه فيها، والجديد الذي تلمّسه في كيفية تبلورها في كتابات المعري، وبخاصة في اللزوميات.
قبل الخوض في موضوع المعرفة، لا بدّ أن نشير الى ما أورده العلايلي في فصل عنوانه: "كيف نقرأ المعري؟"، حول علاقة هذا الأخير باللغة، وما يلزمنا أن نتحصّن به لكي نقرأ ما كتبه لنا. يقول: "إن المعرّي، كما يبدو لي، استحيا اللغة وتلبّسها لا لتعتبر وفق دلالتها، بل وفق دلالاته نفسه، ولا لتشير الى ما اجتمع فيها من وحي العصور وروحها الجاثمة، بل الى ما اجتمع فيها من وحيه ولفتات روحه".  واضح مما ذُكر أن العلايلي يريد لفت النظر منذ البداية الى أن المعري كان متحرراً في تعاطيه مع اللغة، هذا الأمر الذي أعجب العلايلي، هو المنادي بالتجديد، والثورة على التقليد. كشف عن أن المعري وضع نحواً خاصاً به، وبلاغة تخصّه، وقواعد تخصّه، حتى أنه يتحدّث عن لغة للمعري حمّلها دلالاته هو ومفاهيمه هو. لذا لم يعد بالنسبة اليه الاعتماد الحرفي على المعجمية اللغوية أمراً مفيداً، انما ينعته بالساذج والغبي. من هنا يضع للقارئ شرطين من أجل تأمين قراءة صحيحة للمعري: الأول يقتضي توسّعاً لغوياً كبيراً يسمح باستيعاب النواحي الخفية داخل "تصرّفه التركيبي، ورودانه الانشائي". أما الشرط الثاني فيكمن في ضرورة التدقيق العميق في خصائص المعاني أي بـ"جو الألفاظ"، وفق تسمية العلايلي، وهو شيءٌ خلاف المعنى. "فللفظ معنى، وله خيالٌ يضفو على المعنى كهالة".
إن هذين الشرطين المتوفرين لدى العلايلي قد سمحا له باختراق عالم المعري اللغوي كما الأدبي والفلسفي. وقد يكون عدم توفرهما كما يجب في دارسي المعري السابقين كبير الأثر على ما أنتجوه في هذا الخصوص.
بالعودة الى نظرية المعرفة، نشير في البداية الى أن كيفية درس العلايلي موضوعَ المعرفة من خلال لزوميات المعري، وما توصّل الى استنتاجه من نظرية متماسكة حول العقل وكيفية اشتغاله في عملية البحث عن الحقيقة، أمر ملفت للغاية. نجده قد اختار أن يبدأ بدراسة طبيعة المعرفة لدى المعري ومنهجيتها، إذ أن التعرّف على كيفية تفكير المعري ومعرفته للأمور خطوة منهجية ضرورية، بالنسبة اليه. يقول: "قبل الدخول اليه يلزمنا أن نعلم كيف يفكر ويعرف، وكيف لنا أن نفكر ونعرف معه، وما قيمة المعرفة، وما أصولها".  هذه المعية تشير الى رغبةٍ في التعرّف على المفكر كما هو، من دون إسقاط، إنها عملية مرافقة له ولأفكاره، خطوة بعد خطوة.
يرى العلايلي أن نظرية المعرفة كانت وهي أبداً بمثابة أساسٍ أوّلي أدّى الى ولادة المدارس الفلسفية على اختلافها، كما أدّى أيضاً الى نشوء الفرق الدينية والنِحَل على تناقضها. بعد أن استلّ الأبيات التي تكشف عن مفهوم العقل لدى المعري، يشير الى الخصائص الثابتة التي يُزوّد بها العقل وهي تنمو بتفاوت وفق البيئة التي ينمو فيها، فيظهر تارة ضاوياً ملتوياً، وطوراً آخر بالغاً زكياً. ثم يشدّد على ما تبيّن له في سياق بحثه في نظرية المعرفة عند المعري، متوقفاً عند ما يدعوه بـ"فساد عقلٍ صحيح"، ويرى أن هذا التعبير "يُقرّر بأن التعصّب الذي نعيا به ونجهد بحلّه ليس هو في الشيء وليس في العقل نفسه وملكة الإدراك، وإنما ينبع مما يخالط العقل من الأباطيل، وتُسمّى أفكاراً وفلسفات ومسلّمات أحياناً، وهي في حقيقتها فسادٌ فقط لا يزال بالعقل حتى يحتقن متورّماً وينغِل نازّاً بالمِدّة والصديد".
يسلّط العلايلي الضوء على المنحى النقدي عند المعري بخصوص مسألة التعقّل، فيشير الى ما لحظه هذا الأخير لدى الناس الذين يحوّلون ما سبق أن تخيّلوه الى حقائق، ويتعاطون معه على هذا الأساس. كما يلفت الانتباه الى ما قاله المعري بخصوص القيام بتحميل العقل معارفَ تتكدّس فيه وتتحوّل الى "صدإٍ كثيف"، أو الى إجبار العقل مكرهاً على تصديق قضايا يُزعم أنها بمثابة مسلّمات ومبادئ ضرورية للتفكير. من هنا يطالب المعري بضرورة إخضاع هذا العقل من مختلف نواحيه الى عملية صقلٍ محترفة، تنقّيه من هذه الشوائب.
كذلك يشير العلايلي الى تمييز المعري بين العقل الفطري والعقل المكتسب، مطمئناً الى الأول ومنحازاً اليه بقوة، من جهة، ومنتقداً الثاني وحاقداً عليه، من جهة أخرى، وذلك للسببين الآتيين:
- طمسُ العقل المكتسب معالمَ العقل الفطري وتشويه عمله.
- إغراقُ العقل الفطري بتعميمات العقل المكتسب وتضليله.
من هنا كان تركيز المعري على ضرورة القيام بتنقية العقل الفطري عن طريق تخليصه من "طفيليات العقل المكتسب"، وصقله لتنزيهه من الشوائب والأوهام التي أعمته من جرّاء أخطاء العقل المكتسب. لذا كانت العزلة هي الحل لأنها توفر للعقل فرصة ثمينة تسمح للإنسان "بتقليب قضايا العقل على متنوّع وجوهها في تمهُّل، وتحليلها طويلاً في صدق".
فالزهد بالدنيا، واعتزال المجتمع يخوّلان الانسان أن يحقّق ما يأتي:
1- تنقية الفكر من الأخلاط، أي من كل أثر عضوي.
2- تنقية الفكر من صدأ العقل المكتسب وأغلاله المتمثّلة في المبادئ والبديهيات والأوهام المفروضة عليه.
3- التفلّت من أسر القسرية الاجتماعية التي من شأنها أن تحدّ من إرادة الفكر والكائن.
يشير العلايلي الى أمر انتهى اليه المعري بعد أن قام بالتمييز بين العقل الفطري والعقل المكتسب، وقدّم تصوّره حول ضرورة تحرير الأول من أدران الثاني، وهو أن العقل بعد هذه العملية يصبح "نابضاً بخصائصه الثابتة، ذاهباً في اتجاه منطق جديد".  ويربط في ما يلي بين ما قاله المعري عن "برهان الرهان" وبين ما يُنسَب عن طريق الخطأ الى الفيلسوف الفرنسي بلاز بسكال، معتبراً أن المعري هو من سبق وابتدعه.
يخلُص العلايلي، كما يبدو، الى استنتاج ثلاثة أمور بعد درس نظرية المعرفة وطبيعة العقل عند المعري:
أولاً: إنها من "أخصب النظريات وأحفلها وأعمقها، وليست تفي بها خلاصة أو خلاصات،(...)، بل هي خليقة بكتاب ضخم مستقل، لنرى دقتها واستيعابها وتفصيلها، ونرى أيضاً دقته فيها واستيعابه وتفصيله". ويركّز على أهم ما يمكن استخلاصه من دراسة المعري وهو "إمكان المعرفة الحق المُطمئنَّة، بعد استدناء وسائلها وصبّها في ذات طالب المعرفة وفي فكره".
ثانياً: إنها تعبّر عن براعة المعري من خلال ما يسمّيه بـ"حبال الصيد" التي يتمتّع بها الفكر، والتي يستخدمها كما يفعل القانص، وهي بإمكانها أن تجعل مما هو متعسِّر متيسّراً. لذا كان على المفكر أن يقوم بـ"ضحل المستنقعات العقلية"، بخاصة عند أولئك الذين ينظمون نظرياتهم بغير روية ولا فطنة، "لا يُحسون بكسر تفاعيلهم وأقيستهم". في حين أن الذي زوّد نفسه "بحبال صيد فكرية سليمة، ليس يفوته القنص، وليس يقعد أبداً دون الظفر".
ثالثاً: إنها تبرهن على أن المعري هو "أول من قال بمذهب العقل العام"، كما أنه أول "من قال بمذهب الضرورة الذي يرى أن ما يجري في الكون من حوادث، إنما يصدر عن علل ضرورية خاضعة لقوانين المادة والحركة".  ويعتبر العلايلي أن هذا المذهب الذي اكتشفه عند المعري قد عُرف أيضاً بـ"المذهب الميكاني" أو الميكانيكي، "أو مذهب الجبر الآلي. ويشير ختاماً الى أن دارسي المعري لم يفهموا ما قاله على الحقيقة بهذا الخصوص، إنما ظنوا أنه يقول بالجبر.

خلاصة القول، إن المنهج الذي اعتمده العلايلي في درسه نظرية المعرفة عند المعري جاء باستنتاجات ملفتة، على المختصّين بالمعري أن يدقّقوا بجدّتها، ويسلّطوا الضوء على ما توصّل اليه في هذا الشأن. ما يهمّنا هنا، هو لفت الانتباه الى رصانة العلايلي الفكرية، ومدى توخّيه الدقّة والحذر في خطواته البحثية. كما نشير الى أن اختياره للمعري ملفت وله أكثر من معنى، بحسب ما نعتقد.
قد يكون العلايلي قد اختار المعري لأن القليل من الدارسين انكبّوا على إعطاء الأولوية لنتاجه في أعمالهم، كون الفارابي وإبن سينا وإبن رشد قد استحوذوا على الاهتمام الأكبر. وقد يكون بسبب انحيازه وتعاطفه مع ما يسمّيه محمد أركون بـ"المفكرين الثواني" في التراث العربي الاسلامي، الذين هُمّشوا ليس فقط من قبل السلطة وإنما أيضاً من قبل الباحثين الجديين، والمستشرقين، على حساب الفلاسفة الكبار المعروفين. فمحمد أركون، عندما اختار أن يبحث في فكر كل من التوحيدي ومسكويه، كان على علمٍ بأنه يقوم بخطوة في اتجاه معاكس لما هو سائد في أروقة السوربون. ان اتجاهه صوب اختيار العمل على إبراز "نزعة الأنسنة في الفكر العربي" ، كموضوع للدكتوراه، كان يعبّر عن رغبة دفينة لديه، لها أسبابها الخاصة، لم تعد مخفية على أحد، وهي معاناة التهميش التي قاساها بسبب انتمائه الى منطقة القبائل الجزائرية. من هنا، هل يمكننا أن نربط بين التهميش الذي عانى منه أركون، وبين تهميشٍ من نوع آخر عانى منه العلايلي في جوّ لم يكن يعطي للفكر أولويته، ولا للنقد حقّه؟ هل هذا الأمر قد لعب دوراً في اختيار العلايلي لنتاج المعري؟
وبعد،
يمكننا في الختام أن نسأل، هل بقي المعري، بعد أن مرّت عليه نظرات العلايلي النقدية مجهولاً؟ هل ما سبق أن قدّمه بخصوص نتاج المعري المعرفي قد كسر الحاجز بين "رهين المحبسين" والمتلقّي المعاصر؟ هل أصبح "ذلك المجهول" معلوماً على حقيقته وكما يليق به؟ أسئلة تضعنا في وقفة تأمّل بما أنتجه العلايلي، وبكيفية مقاربته للمعري. أسئلة تلقى في نظرنا ردّا إيجابياً يبرهن بوضوح على أن كاتب "المعري ذلك المجهول" قد أصاب الهدف، ونزع الستار ليكشف عن وجهٍ عانى في حياته كما في مماته من التهميش والعزلة الجبرية كما الاختيارية. ما كتبه العلايلي حول المعري يستحق التوقف عنده، والاستفادة منه، والذهاب به الى أبعد. بين العلايلي والمعري أكثر من نفس ثوري، وأبعد من مسار نقدي...
في النهاية يمكن أن نلحظ، بعد أن توقفنا عند تجليات المنهج النقدي، في نقطة أولى من خلال مقاربة الدين، وفي نقطة ثانية من خلال تحليل نظرية المعرفة عند المعري، كم أن عبد الله العلايلي إنسانٌ مهموم بالانسان، وبالمعرفة في آن. الحقيقة هاجسه، وهدفه المنشود. المنهج النقدي طريقه الذي شقّه بعرق الكلمات. الثورة على التقليد تعبيرٌ واضحٌ عن توقه العميق نحو المزيد من التحرّر من الجهل ومن عبودية الماضي السحيق. وسّع حدود الأفق بمسعاه النقدي المتجدّد، وأطلق العنان للإنفتاح والتفلّت من القيود. لا يستكين ولا يهدأ ما دام هناك جهلٌ وتعصّبٌ وانزواء...
عبد الله العلايلي علامة مسجّلة في وجدان كل من قرّر التمرّد على سجون الواقع المتكثرة، ويدٌ حانية ترفق بمن تاه في وجع الأسئلة المقلقة...
هو الذي قال في فاتحة "تاريخ الحسين":  الناس في الحياة أشباح مبهمة تختلط ثم تتكسر في ظلام الأبدية بغير ضجيج، ولكن الكائن العظيم وحَده هو الذي يُقدّم التاريخ العظيم..." ،  فهل سيخترق شبحه المبهمُ هذا ظلامَ الواقع المأزوم بفعل توهّج كلماته؟