شريط الملتقى

مقالات

جدل القومية والوطنية في فكر الشيخ العلاّمة عبد الله العلايلي

الاستاذ الدكتور أمين فرشوخ
عميد كلية الدراسات الإسلامية في جامعة المقاصد

- (بحث ألقي في مؤتمر العلايلي بتاريخ 28 شباط 2017 بدعوة من ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار)

في الجدل والجدال، أنّ السجال قائم، ولا شيء محسوم أو نهائي، وهذا يشير، كما اسلف السادة الذين سبقوني، إلى أنّ العلايلي إشكالي، هو باحث يتعمّق، موسوعي يستشهد، منطقي يقلّب أفكاره ويحلّل، وقد يستنتج، ولكن ليفتح استنتاجه على أسئلة قد تكون أكبر، أو أجرأ من سؤاله الافتراضي الذي بنى عليه أطروحته. همّه اللغة، همّه الإنسان ، همّه سعادة هذا الإنسان مع ربّه وأخيه.
يقول الشيخ عبد الله العلايلي: « شخصية الفرد قاعدة الاجتماع، وما يتصل به يدخل في الجماعة دخول الجزء المستقل في الكلّ المركّب، وليس دخول الجزء المنقسم في الكل البسيط». ( )

هكذا فهم العلايلي وأفهمنا الطابع العصري للمدنية الحديثة ، في هذه المعادلة الرياضيّة، شارحاً ضرورة « أن نحافظ على الاستقلال الذاتي للفرد في ظل الأواصر الاجتماعية، وأن نستخدم ذلك في التربية »( )

ولأن العلايلي صاحب قراءات متعدّدة، من ثقافات متنوعة، صار مثلها، ابن زمانه، رغم عمّته الأزهرية ومخزونه التراثي، فزاوج بين القيم، ومنها القيم الإسلامية، والعصر الذي عاشه، بلا عوائق تاريخية تحبسه، أو إرث يكبلّه.

هذا العقلاني، المؤمن، الجريء جداً، أطروحاته إصلاحية، لم يتورّع أن ينقد الفكر الديني ورجاله، والفكر السياسي ورجاله، اجتهد فاتهم، عرض فابتدع ، كتب وخطب وتحدّث كثيراً في مواضيع صعب على آخرين تناولها لكثرة مزالقها ، لم يخف، ما اعتقده حقاً صرّح به،، بل صرخ به.
ويبقى إشكالياً، لم يحسم قضاياه كلها، استهدفه كثيرون في ذلك، لم يأبه، ألم يقل يوماً: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﱠ  [ يوسف: ١٠٨] ويتابع واصفاً كتابه «أين الخطأ»: «بأنه تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد»، إذاً، كتاباته محاولات، فكم كتب وتوقف دون أن يكمل، لا جزء ثان لكتاب مهدّ له ، أو أجزاء تالية للمقدمة أو للمعجم أو ....
وكي لا أضيع في متاهات كتابات العلايلي وأفكاره فيها، سأتناول ، فقط، أبعاد فكره القومي والوطني، معتمداً على ما كتبه هو، لا على ما كتب فيه، في هذين الموضوعين، القومية والوطنية، علماً، أننّي وباحثين آخرين، نرى أن ما أصدره العلايلي لا يُدرس أجزاء معزولة عن بعضها البعض، فمنهجه كلّي ، وقد تكون «اللغة» منطلقه ، ولكنني لن أشير إليها إلاّ لماماً، في ما يأتي.

أفكار الشيخ عبد الله العلايلي في القومية، ضمّنها مكثّفة في كتابه «دستور العرب القومي»، وهي أفكار، هو يقول عنها: « لست أدعو أحداً إلى اعتناقها أو الإيمان بها، وإنما أدعو الجميع برغبة صادقة إلى مناقشتها وتفهّم عوالقها... فقط أنا أرسل دراساتي هذه التي هي التماعات وقد لا تزيد».( )   

فكتابي هذا، يقول العلايلي في تصديره: « بعضٌ من الحياة في بعضٍ من أغلاط الأحياء»، صحيح إن هذا الكتاب عنوانه دستور العرب القومي ، لكنه ، فعلاً هو أفكار فقط ، أفكار نظرية هو قال فيها : «طائفة من الآراء في القومية على مقدار ما يسمح لي الإستقلال الفكري» ( )  يعتمد فيه على أقوال كثيرة ومواقف مقتبسهُ من علماء سياسة واجتماع، عرب وغير عرب، وبعد تعريف وشرح وتعقيب، واستطرادات.. توصّل العلايلي إلى الأخذ على العرب أنهم لم يُزوَّدوا بفكرة واضحة عن القومية، فلا توجد دراسة لفلسفة القومية في البرامج التعليمية العربية، وكانت الكتابات في هذا الموضوع، في النصف الأول من القرن العشرين، قليلة جداً.

يشير العلايلي إلى أن تفتّح الأذهان لفكرة القومية العربية بدأ مع ثورة الشريق حسين في 10حزيران 1916، لكنها، رغم انتصارها العسكري والسياسي، فشلت، كما يقول، في بعث الشعور القومي لثلاثة أسباب ، هي: عدم تماثل الأقاليم العربية، ولو نسبياً، في الفكر، وفي المستوى الاجتماعي، ولأن تحبيذ الحلفاء للقب خليفة، كان بمقابل لقب السلطان العثماني، فقط، وهذا ما أوهن القضية العربية، فالخلافة حق للمسلمين كلهم، وليست حكراً على العرب، وواضح – يتابع العلايلي – رغبة الحلفاء بإنعاش مصالحهم في بعضها، والسبب الأخير، هو عدم وجود زعيم قومي عنيف يردّ إلى العرب ثقتهم.

هذه الأسباب، يقول : لا تمنع من القول، إن القومية العربية حقيقة واقعية، استوت على فكرة، وراء أهداف وحقوق.
قارب العلايلي فكرة القومية مطلقاً، والعربية خصوصاً، من مبدأ «صراع الفردية والجماعية» فإحساس الجماعة بشخصيتها ومكوّناتها، حدث مهم في تاريخ البشرية، والإحساس بالفردية كان هو الممهّد للإحساس بالجماعية، وهذان المفهومان دخلا في صراع لم يزل قائماً، ولم يصطلحا، ليكون أحدهما مقدّمة للآخر ( )  ويتابع العلايلي مقارناً بين القوميات، بعد التعريف بها والتأريخ لها، ليصل إلى استعراض عوامل بناء القومية، التي هي«غرض طبيعي، وليست خاضعة للاختيار الاجتماعي» أي « هي رابطة طبيعية جبرية » تؤدي «إلى مصالح مشتركة» ( )  والعوامل التي يراها للقوميات، هي: اللغة أولاً، ثم المصلحة، ثم المحيط الجغرافي ، فالسلالة (أو الأصول) إضافة إلى التاريخ المشترك والعادات الاجتماعية...

أشرتُ إلى أن منهج العلايلي هو شمولي، يحتّم علينا دراسة فكره مجتمعاً لا أجزاء، وهكذا رأيناه في كتابه «مقدّمة لدرس لغة العرب»، وفي طيّات كتبه الأخرى يقول عن اللغة: «لأنّ اللغة أحد وجهي الفكر،  أنا أفكّر بفكر عربي فإذاً أنا موجود عربي ».( )  واللغة برأيه هي العامل الأول والأهم في بناء القومية العربية، وهي التي صبغت المحيط الجغرافي، ولأن السلالة (أي الأصول التاريخية) التي لها حق الرجحان، هي صاحبة اللغة الباقية،( )   فتكون اللغة العربية هي الجامع، والعامل الطاغي. وقد تجنّب ، بصراحة ووضوح، الإشارة إلى العامل الديني في القومية العربية، بل عقد فصلاً خاصاً للدين مطلقاً والإسلام خصوصاً، كي يسوغ وجهة نظره باستبعاده العامل الديني. إذاً استعاض العلايلي عن العصبية الدينية في بناء القومية باعتماد فكرة القومية اللسانية أو الجغرافية أو التاريخية، مدلّاً على قوميات استعانت بالدين لتأجيج الحماسة، ففشلت،  « لذلك اختيار الإسلام -يقول- ليكون رمز القومية أو دينها يهيج بلا ريب، وبصورة حتمية، عنعنات الأديان الأخرى».( )  

من هنا رأينا المسيحيين يشجعونه في نظريته هذه، لأنه أبعد الدين، وفهمه طبيعياً – كما يشرح  – وروّج لقومية عربية هم فيها، دون متاهات مذاهب الإسلام.
فكيف فهم العلايلي الدين، الذي استبعده من عوامل تكوين القومية؟
في مطلع جوابه، يشير العلايلي إلى أنه مطمئن إلى صحّة رأيه في أن الدين ليس عاملاً لتشكيل القومية ، مضيفاً أن المعنيين ببعث القومية، وتأجيج الحماسة بسبيلها يعتمدون أكثر الأحيان، عوامل غير قومية خالصة، مثل الدين أو التاريخ، ويتابع: « أنا كرّرتُ القول أنه لا دين في القومية، ولكن، رغبةً في أن يظل لنا مُثل سامية رفيعة، فإنني في ذلك أستحسن في كتب الدين الطبيعي أن تكون الشواهد من كتب الأديان الثلاثة » ( )   فالدين «علة النكبات بين أبناء الوطن الواحد بل البلدة الواحدة».( )  

ومثّل على ذلك بالبلاد العربية قائلاً : « إن كل تنازع وقع في الوطن العربي، إذا درسناه في جوهره، ظهر أنه بأصابع رجال الدين وتشجيعهم ، ولهم نقول: [يتابع العلايلي ] كلمة صريحة: إن الأديان اتفقت في الجوهر والأهداف واختلفت في الوسائل والطرق فقط، فليتبع كلّ منا طريقته في الاتصال بالله الذي هو حق للجميع .. فالقومية الوطنية فلسفة تعرّفنا كيف نعيش على الأرض ، وإن الاختلاف في وضع الحياة في السماء لا يسبّب أبداً الاختلاف في وضع الحياة هنا، فاستعدّوا وحدكم – أيها الزعماء الدينيّون – لمعركة السماء المستقبلة، فإننا جميعاً على الأرض متفاهمون». ( )  

وفي مكان آخر، رفع صوته مخاطباً رعاة الأديان: «إن رسالتكم تنحصر في تطهير القلوب، كما إن رسالة الزعماء السياسيين تنحصر في تطهير العقول، فإذا لم تشعروا، يا رعاة الأديان، بفائدتكم في الدائرة التي اختصصتم بها، فأنتم تشكّلون رسوماً هزلية عن الذين قاموا بحمل هذه الرسالة قبلكم».( )  ويروح يكيل لرعاة الأديان كيلاً وراء كيل.

وهل بعد هذا التصريح، من عبد الله العلايلي، الشيخ الأزهري، والمفكر العملي، والمنظّر السياسي، والعالم الجريء... أي كلام.
وفي فهم الإسلام دعا إلى التعاون، والتكافل، والإصلاح، وحق الفرد – مثل حق الجماعة- بالحريّة في الاختيار، والقيادة.. وهي: «فروض أدبية يشعر بها الإنسان الكبير القلب ، العالي الهمّة والسليم الوجدان».( )  

فغاية الإسلام أن يجعل من  المسلم ينبوع نور، لا جسماً منيراً فقط ( )  والإسلام دين العلم، والفطرة، والطبيعة والحقيقة. ( )  

لذلك سعى العلايلي للتقريب بين مذاهب الإسلام، يقول : « إني من أنصار التوحّد في الفقه، كالجذع للدوحة ، وحدته لا تنفي تشعّب أغصانها، بل تعطي الدوحة فيئاً وظلاً، وشيئاً فوق الفيء والظل ، إنه الفوح واللون والثمر، من كل وجه، وعلى كل نحو». ( )  

وإذا كان الإسلام العملي مصدر إبداع، وهو كذلك، فقد صوّره الحديث النبوي [ يقول العلايلي] بما هو أجمع وأكمل: « بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ» ( )  ولكن، يتابع العلايلي، لا كما فهمه القدماء بظنهم أن كلمة «غريباً» من الغربة، بل هي من الغرابة أي الإدهاش، بما لا يفتأ يطالعك به من جديد، حتى لتقول  إزاءه في كل عصر : «إن هذا لشيء عُجاب». ( )
 
وما فتئ العلايلي يفتش في الفكر الإسلامي، وفي تطبيقاته الفقهية والتاريخية، عن مواطن إبداع في حياة الفرد والجماعة – توصلاً – في رأيه «إلى حصيلة، يمكن أن تكون أساساً لتقديم الشريعة تقديم الفكروية: أي الأيديولوجية، الحاوية لعناصر الخلاص في المضمار الاجتماعي العام  ( )  فحين تتسامي الشريعة، تجعل السلام  تعايشاً وتعاشراً ، أجل ، يقول العلايلي : « ما ظنّك بمثلها شريعة عملية هي : كل الإصلاح في فن الحياة، لكل الأخطاء في سعي الأحياء ».  ( )  

من هذه النوافذ المشرعة على حق الإنسان، وحريته، وسلامه مع ربّه، ونفسه، وأهله، من هذه المقامات الفكرية المتعالية عن الاستغلال والماديّات والمناصب الجوفاء، وتشويهات السلوك الإنساني البغيض، ومن مفهومه للدين الطبيعي ، وللإسلام، عالج الوطنية في باب القومية، وهو الذي عاش هموم الشعب العربي، في زمن التحوّل من الرابطة العثمانية إلى الجامعة الإسلامية إلى القومية العربية هذه، فكان هدفه «الإنسانية» إذ بعد الحربين العالميتين ، أراد أن تظلل الإنسانية الجميع، فوق الأديان والمذاهب والقوميات، وفي معالجته «الوطنية» أو «الإقليمية» درس في «باب الاجتماع» أن الفرد مدين بشخصيته للمجتمع، ونظرية «التحوّل» في الخصائص مع الزمن تثبت أن جسمانية المجتمع قابلة للتحوّل، متأثرة بالتيارات القوية ، من هنا فإن المنطق يدعوه – يقول – إلى المناداة بعربية جميع الأقاليم التي يسكنها العرب. لكن برغم سيطرة اللغة العربية على موجات اللغات الأخرى، وما يجعلها العامل الأكبر والأهم في «قومية العرب»، فإن التماثل الاجتماعي «لم  يتم بعد»، يعني أن التقارب بين جماعات الأقاليم هذه لم يكتمل، فكما أن الدعامة الأولى في اشتراك الجماعة وضماميتها  ترجع إلى التماثل الفردي ، كذلك يكون التماثل الاجتماعي الدعامة الأولى في اشتراكية المجتمع وضماميته.

ففي المجتمع العربي تفاوت واضح وعريض، وليكون مجتمعاً راسخ الدعائم، علينا إحلال التماثل محل التفاوت، وهي ليست قضية قريبة المنال.
وعن التماثل هذا يقول العلايلي إنه مسؤولية الحكومات العربية، فهي القادرة على اعتماد ثقافة اجتماعية مساعدة، «باللغة وبالقانون» ، فإذا اجتمعت ألغت الفروقات وسهلت عملية التماثل بين الشعوب العربية. ( )
ويعرّج هنا ليسأل: ما هو مصير الأقليات في هذا الوطن العربي الواسع، وهي ذات خصائص دينية أو عنصرية أو ثقافية معينة،  والجواب عنده هو أن الدولة تستطيع أن ترفع لواء الوطنية – القومية – فوق كل لواء متفرد، وذلك بالعدالة والطمأنة ، خوفاً من « تآمر الأقلية على الوطن وتفتيته ، فلا أقليات في الوطن بل هناك وطنيون فقط » ( )

فلا بد، إذاً، من المرور بالإقليمية، فحين – تاريخياً – فكّر جلالة الملك فيصل بالثورة العربية، والقومية العربية الشاملة، جاء بعده دور الشباب الذين فكّروا تفكيراً مدخولاً بالإقليمية بنسب متفاوتة.( )  

وحين يعرّف العلايلي الوطن يقول: إنه أرض دخل في تركيبها عناصر عضوية من عضوية القوم الأحياء الذين لا يزالون يعيشون فوق أديمها. فهذه الأوطان المكوّنة، بانتظار أن تتماثل وتلغي التفاوت بينها، هي، على عروبتها، لغة وتاريخاً واشتركاً ، محكومة بأن ترقّي أفرادها في نفس الجماعة، فلا عصبية دينية ولا مذهبية، بل عدل وتكافل وتكامل، ولأن للسياسة وجهاً أخلاقياً، فعليه أن يكون في صدراة العمل بها، ولا بدّ من إعطاء الشعب حقّه ودوره في التغيير، وللنخب فيه دور القيادة لإدارة  شؤونه.
ويعرّف الوطن بأنه المعنى الأكمل لآمالنا ، والوعاء الأقدس لحمل أحلامنا وأمانينا ( )، ويجب أن تسوده حرية الرأي، ومن لم يحرر عقله فليس له رأي، وكي يكون الوطن وطناً بالمعنى الحقيقي، يجب أن يكون هو نفسه المعاهدة الأقوى التي تربط المواطنين ببعضهم البعض ، وهو لا يعرف الفرقاء. ( )
 وهو لا يؤيد المعارضة التي تعتمد التسوية وأنصاف الحلول، فالمطلوب هو الإيجابية التي تتبنى اتجاهات تصحيحية عليا، تحمل بذور ثورة فكرية ( )
وتحدث عن دور النواب في تمثيل الشعب حقاً، وعن الإصلاحات المطلوبة من مجلسهم، وعن البرامج الانتخابية المفقودة عند الأكثرية من المرشحين، وعن الرقابة الشعبية على النواب. كذلك تحدث عن الأحزاب السياسية في لبنان، فناصرها، نتيجة تفكر، فالأحزاب مهما كانت ، تستطيع تحقيق مكتسبات للطبقات الشعبية، لذلك شارك في تأسيس بعضها ( عصبة العمل القومي 1936) ( والحزب التقدمي الاشتراكي 1949) بعد أن درس الماركسية واطلع على نشاطات «حركة أنصار السلم»، وقرأ فلسفات غربية كثيرة، فآمن بالسلم استمرارية للحياة أي إرادة الحق ضد الباطل عند كل إنسان، إرادة النور ضد الظلام، والحركة ضد الجمود.
وعنده في الإنتماء الوطني نظرية خاصة، فالولاء للوطن يعود برأيه إلى الوراثة، أي تصنيف القوى الفاعلة، لذلك أقدم قاطني الوطن هم أصحاب الحق في حكمه، والحديثو العهد فيه ( من قرن أو أقل) ولو كانوا أثرياء، فإنهم غير مؤهلين لحكمه، لأن ولاءهم ضعيف، أما الطبقة الفاعلة بين الاثنتين السابقتين، فهي الطبقة الوسطى، وعليها الاتكال في القيادة وبعث مجد الوطن، وهي الأكثرية، وعلى الطبقات الثلاث التعاون الكلي لتقوى البنية الوطنية.
وفي الحكم، أو العمل السياسي، في الوطن، وبعد إشارته إلى الأقليات، يتحدث العلايلي عن آفات العقائد وأمراضها، من ذلك ما نعطيه نحن من صفة القداسة لبعض القوانين أو التقاليد أو السلوك، وهذا في رأيه عقبة في طريق تكامل المجتمع، فالأفضل أن يخضع كل ذلك لنظام التطور والتغير ، وإلاّ فسد وأفسد معه كل شيء، فهذه «المقدسات » عندنا هي استجابات لمحرضات مختلفة، فلنبدأ بإصلاح المحرضات،( )  ولكي نتحمل مسؤوليتنا، يجب علينا الإيمان بأن الله أباح للإنسان اختيار ما يشاء من أفكار وأنظمة ومواقف.( )

وفي هذا السياق، نتفهّم «النضال» العلايليّ، في مشاركته مقارعة أشكال الوصاية والاحتلال والانتداب، ومقاربة التاريخ من زاويته الاجتماعية، غير الطوائفية، مساهماً مع جيل شباب المؤرخين – وقتذاك – في تعرية الكتابات العصبية التي شوّهت تاريخ لبنان، وفي تناول القضية الفلسطينية، سياسياً وإنسانياً، وحرب لبنان بعد العام 1975، وفي هذه المسألة اللبنانية دخل في التفاصيل منتقداً الخطب والمواقف والاتجاهات التي تفرّق وتختار من التاريخ ما يلائم مصالحها.
وفي موضوع فلسطين اعتبر أن اغتصابها هو تفتيت للأمة العربية، وهي قضية حياة أو موت للعرب كلهم، وحكام العرب كلهم مسؤولون عن بيعها وضياعها، بالتعاون مع الاستعمار الغربي. وهي عنده قضية عربية كبرى اقترح لها حلولاً سلميّة .

ويتابع العلايلي أنه بعد  الحروب، «ضمرت فكرة المكان»  في جانب من العالم، وارتفعت صيحة «التعايش السلمي» وهو وإن كان إيجابي الصفة ، فهو سلبي المحتوى يعبّر عن يأس من إيجاد الحل، والاكتفاء بالعيش ولو في ظل الواقع المتنافر، لكن ما بُني على فاسد فهو فاسد، بينما في الشريعة العملية – يعود إلى مفاهيم الإسلام – لون من التعايش بني على أساس إيجابي من التعاون الحق، نقرأ قوله تعالى :  ﱡ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ  [المائدة:2] وأيضاً : ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: ٢٠٨ ] ( )  
    هكذا يمكن أن نترقى، في فهم الجماعة، ( الجماعة في الاقليم ) باحترام الجهد الفردي، بلا استغلال، لنقيم العدل. ومن وجوهه: وظيفة الخدمة العامة، وفيها – يقول العلايلي : «نحن لا نعرف الارستقراطية إلاّ في الوطنية والخدمة العامة والإنتاج المثمر، فأي امرىء كان أكثر  خدمة وأكثر اجتهاداً وإنتاجاً، فهو الارستقراطي فينا، وأمّا غير ذلك، فلصوصية  اجتماعية لا نغتفرها، وهذه الفكرة نعدّها رسالة كل مشارك في الوطن، ينعم بأرضه وسمائه». ( )  

جرأة العلايلي في مقاربته جدلية القومية والوطنية، مغامرة، وهو بعد أن التقى مع الكبير كمال جنبلاط في «مبادئ السلم» وأسس معه الحزب التقدمي الاشتراكي، تركه، وحين نُعت بالشيوعي، ردّ: لا أنفي المبدأ،  وربما التقيتُ مع الفكر الشيوعي أحياناً، ولكنني اختلفت معه بنقاط كثيرة. والعلايلي لم ينتسب إلى حزبه، كذلك سبق ونادى بدمج حزب الكتائب والنجادة، ثم دمج  الكتائب والحزب التقدمي الاشتراكي، وانتقد الميثاق الوطني اللبناني، لأن «الخارج» كان له دور فيه، وفي هذا السياق انتقد استقلال لبنان لأنه مُنح من دون نضال ففقد عنصر الإرادة الوطنية المقدّسة. كما أثارته فكرة الاستقلال، لأنها عزل للبنان عن أشقائه العرب، فهو لا يؤمن بعروبة منغلقة ، ولا بإسلام منغلق، ولا بحزبية انعزالية.
مغامرة هي مقاربته هذا الموضوع الشائك يقول : « أن كل عربي يدعو إلى (أقلمة) بلاد العرب، هو متأمر بقوميته، لكنّ عدم التماثل الاجتماعي العربي، يُحل الإقليمية ، إلاّ أن التماثل إن حصل واستمرّت الإقليمية فهي جريمة. ( )  

وأسرد هنا بعض الأسئلة التي يمكن أن تنفتح عليها استنتاجات العلايلي:
1-    هل كان العلايلي يحلم « بجمهورية سعيدة » فيها أفراد يعرفون حقوقهم ويؤدون واجباتهم، وعليهم حاكم عادل فيه من صفات الأنبياء الكثير؟
2-    وأي نظام حكم كان يرغب تطبيقه في « أقطارنا » ، بعد عرضه التقسيم المالي للطبقات فيها، متوخياً إصلاحاً اجتماعياً مثالياً ؟
3-    وأخيراً، هل أستطيع أن أتيقن من رأيه أو وتصوّره للوطن (القطر) اللبناني؟ وهو الذي تحدث عن العدالة فيه، و نبذ الطائفية التي يمكن أن تزعزع كيانه، وشجب الحكم العسكري (لأنه يرى أن مهام العسكر المقدسة تتمثل فقط بالدفاع عن شرف الوطن، وأنّ الحكومة العسكرية طعن للديمقراطية وانتقاص من شأنها).
4-    أم هل كان كل ما كتبه هو «أفكار» كما أعلن ، و «أحلام» فقط؟

ويختم العلايلي، ونختم معه، كتابه « دستور العرب القومي»، الذي أسماه البعض «إنجيل القومية العربية»  بقوله: « ولله روعة هذا الحلم المتكامل، فما العربية إلاّ وطن، هذه الحقيقة هي شعارنا وسنظلّ في محاولة  الكفاح، وهي نصب الأعين، تمدّنا بالعزم،  فما نصل إلى منزلة إلاّ طلبنا ما وراءها حتى نحقق الهدف الذي طالما كان حلماً نناجيه». ( )