شريط الملتقى

مقالات

الأديان سبب للصراعات أم خلاص للبشرية
٢ آب ٢٠١٦

 

القاضي الشيخ محمد نقري

قبل البدء بموضوع المداخلة أروي هذه القصة التي شهدُتها شخصياً لصديق كان يأنُّ من حمل أغراضه ويحمل مفتاح سيارته بيمينه استعداداً للصعود بها وقد التقى بجاره المتدين فعزّ عليه ألا يلقي عليه التحية وفوجئ بعد التسليم عليه بعبارات التجريح ومخالفة الآداب الإسلامية والأعراف والمقدسات تنهال عليه لأنه سلم عليه وبيده مفتاح سيارته. لم يردَّ صديقي على الإهانات وسكت عنها بمضض وهو يعرف بأن هذا الجار المتدين الذي يسكن فوقه ما زال ينتهك إلى الآن ومنذ عشرات السنوات كافة المبادئ والتشريعات الدينية والأخلاقية والقانونية التي تتكلم عن حق الجار وعدم الإضرار به رغم تنبيهه عليها وذلك لأن منزل صديقنا تحول الى مستنقعات مائية وجدرانه إلى شلالات تتدفق من سقف منزل جاره المؤمن.

هذا مثل بسيط جداً للأولويات الدينية الملتوية والمنحرفة الراسخة عن جهل أو عن تعصب في قلوب كثير من المؤمنين. هذا الفهم الملتوي والمنحرف لمفهوم الأولويات الدينية هو سبب من الأسباب الرئيسية التي جعلت من الدين مادة للصراع والخلاف والتناحر بين البشر.

عندما تولى الثوار السلفيون زمام الحكم في مالي كان أول همهم قطع الأيدي والأرجل وتحريم الموسيقي وهدم الزوايا والتكايا واحراق الكتب المخالفة لعقيدتهم. لم يكن همهم إشاعة الطمأنينة وتوزيع الإبتسامة وتدعيم الإقتصاد ومحاربة الأمية والجهل وتزفيت الطرقات وتأمين الطعام وبناء المستشفيات...الخ من منظورهم الديني المنغلق والملتوي هذه الامور لا تعد من الأولويات بل من الكماليات أو التحسينيات أو ربما من البدع التي يجب محاربتها .

مثال آخر وهو ما يرافق عودة ظاهرة التدين عند الجاليات المسلمة في اوروبا من الحرص على تمسك البعض بالمظهر الخارجي من لباس ولحية وحجاب قبل تمسكهم بالجوهر الذي يكون في ترجمة التعاليم والآداب الإسلامية إلى منهج حياة متكامل يحترم الإنسان والمجتمع الذي يعيشون فيه ويبنى على الصدق في التعامل مع الآخر. في حين أنه قد يكون هذا المظهر الخارجي الذي يعتقدونه تديناً لم يغير في سلوك هذا الشخص شيئاً فبقي على حاله من ناحية مسلكه الذي ربما يكون سيئاً وسلبياً.         

 

أعود إلى موضوع اليوم لأبتدأ من حيث انتهي العنوان لأجيب بأن الأديان هي في الأصل لخير البشرية وهذا مما يستفاد من التعريف الجامع المانع الذي قال به الباجوري في جوهرة التوحيد : الدين هو وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود الى ما هو خير لهم بالذات. وأبقى في سياق العنوان لأقول بأن الذين اتبعوا هذه الأديان لأسباب منفعية أو عاطفية محضة أو قد تكون إيمانية غير واعية أكثرهم تسبب في كل العصور بقسم كبير من هذه الصراعات التي شهدتها ومازالت تشهدها الإنسانية إلى هذا اليوم عن قصد أو بدون قصد. لا يوجد تناقض بين الإيمان ومبدأ الخيرية  العامة بل هما صنوان، وإنما هناك تناقض ما بين الجهل الذي يصيب المؤمن ومبدأ الخيرية العامة، وقد يكون خطر المؤمن الجاهل هو اكثر بكثير من خطر الجاحد العالم. كما لا يوجد تناقض بين الإيمان والعاطفة، فالعاطفة الدينية مطلوبة ولكن بشرط أن تنضبط داخل نطاقها الايماني ولا تنجرف إلى المغالاة التي تؤدي الى التعصب والتعصب الذي يؤدي الى العنف والعنف الذي يؤدي إلى الصراع مع الآخر. ولا يوجد تناقض بين الإيمان والأنفعية التي يعم خيرها على الإنسانية جمعاء وإنما هناك تناقض بين الإيمان والأنفعية الشخصية المقيتة التي يسعى الإنسان عن طريقها الى تحقيق المكاسب والسلطة والزعامة على حساب إفقار الناس وكبت حرياتهم وإخضاعهم لقواعده الاستبدادية والتي يعتبرها ضامنة لوصوله الى مبتغاه.

فالدين إذاً يبنى على العلم ولا عجب بأن يكون أول الوحي في الكتاب المقدس : "في البدء كانت الكلمة" ، ولا عجب أيضاً أن يكون أول الوحي في الإسلام : "إقرأ ". لذلك وجب على الإنسان الذي يسلك طريق الإيمان أن يفهم النص الديني فهماً حقيقياً وإن عجز عن فهمه فليتلجأ إلى أهل العلم ، كما جاء في القرآن الكريم : "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، فالنص الديني له معانيه الخاصة التي تبنى عليه استنتاجاته وأحكامه والتي قد لا يدركها كثير من الناس، والجهل بها وعدم الإحاطة بمقتضياتها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة على الأفراد أنفسهم وأسرهم ومجتمعاتهم.

فلنأخذ مثلاً على ذلك مسألة اتخاذ غير المسلمين أولياء من دون المسلمين والتي تؤدي من جانب المسلمين إلى الحيطة وتجنب مخالطة غير المسلمين. هذه الحيطة لا تتوقف على   مستوى الدينيْن فقط الإسلام والمسيحية بل تتعداهما إلى الحذر في مخالطة المذاهب التي تنتمي إلى دين واحد، ولا تقف على هذا الحد بل تتعداه أيضاً الى الحيطة في التعامل ما بين إنتمائين مختلفين داخل المذهب الواحد، ولعل داخل الإنتماء الواحد يوجد اتجاهان مختلفان ما يلبثا أن ينقسما على بعضهما البعض ويولدان متناقضين متحاربين جديدين. وإذا عدنا إلى المصدر الديني الأساسي فسنجد قول الله تعالى في القرآن الكريم : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "، فكيف سيفهم المؤمن هذه الآية التي تدعو الى التعرف وإقامة العلاقات مع بني البشر إذا قرأ آية عدم موالاة غير المسلمين، وكيف سيني على هذه الآية الأخيرة أحكامه في معاملة أبناء الدين الآخر.

تقول الآية القرآنية : ﴿8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ فالمسلم مطلوب منه ألا يتخذ الذين يقاتلون المسلمين في دينهم ويخرجوهم من ديارهم ويتظاهروا على إخراجهم  مناصرين لهم وأعوان ، والنهي عن اتخاذهم أولياء ليس بوصفهم شركاء وطن أو جيران سكن أو زملاء عمل أو أصدقاء في الدراسة أو في أي جانب من جوانب الحياة الاجتماعية ، ولكنه نهي عن مناصرتهم بوصفهم جماعة معادية لجماعة المسلمين تحاربها بنفسها أو تمالئ عليها أعداءها المحاربين لها . وبوصفهم جماعة تتخذ من تميزها الديني لواء تستجمع به قوى المناوأة للمسلمين والمحادة لله ورسوله.

والمثال الذي تتضح به صورة هذا النهي في هذه الآية القرآنية هو العلاقة التي يجب أن تكون بين مسلم اليوم – سواء كان موطنه في دولة عربية أو إسلامية أو غربية أو حتى في فلسطين المحتلة – وبين الصهاينة من اليهود الذين يحتلون أرضنا في فلسطين ويقتلون أهلنا ويشردونهم بإخراجهم من ديارهم بغير حق ، وحتى بإقفال ما تبقى لهم من متنفس نحو الخارج . فهؤلاء تجب معاداتهم والوقوف موقف الإنكار والشجب لكل ما يفعلون. وهذا يمتد أيضاً على حركة المسيحيين المتصهينين الذين يعادون الإسلام ويستهزؤون بمبادئه ويزورون تعاليمه ويساعدون الصهاينة الإسرائيليين في شتى المجالات سواء في تقوية وشرعنة الاحتلال أو في تزويدهم بالمال والعدة أو في مؤازرتهم على أعلى مستوى على صعيد الإعلام الدولي المتحيز لإسرائيل. وأما اليهود العرب وغيرهم الذين يعيشون في بلادنا أو في البلاد الأجنبية وهم مواطنون في هذه الدول فنحن لا نعاديهم ولا نحاربهم ولا نصد الآخرين عن  التعامل معهم بل على العكس تماماً نتقاسم معهم خيرات هذا البلد ونتقاسم أفراحهم وأطراحهم.

فتكون موالاة غير المسلمين الذي نهى القرآن عنه في مواضع متعددة قد جاء مرتبطاً بحوادث تاريخية مثل المحادة لله والرسول أو مرتبطاً بإخراج الرسول والذين آمنوا به من مكة . أو في حالة الحرب والعدوان من جانب غير المسلمين فيكون النهي مقترناً في هذه الحالة بكون هذه الموالاة من جانب بعض المسلمين الذين يتولون غير المسلمين من دون موالاتهم للجانب الآخر من المسلمين. والموالاة المنهي عنها أيضاً هي للذين يتخذون دين الإسلام مادة للعبث والاستهزاء وحتى أن القرآن ينهي المسلمين عن مجرد مجالسة الذين يخوضون بغير علم في القرآن الكريم استهزاءً به ولو كانوا من المسلمين المتظاهرين بإيمانهم بهذا الدين، فمن باب اولى أن يكون هذا النهي مع الذين يخالفونهم دينهم إذا جرى الاستهزاء والفتنة على ألسنتهم.

وهذه الأمور التي ذكرها القرآن الكريم في مجال النهي عن موالاة غير المسلمين ليس له علاقة بالصلة اليومية المعتادة بين شركاء الوطن سواء من أهل الإسلام أو من الأديان الأخرى. فإن الراشدين العاقلين لا يعادون من يتقاسم معهم أوطانهم في سبيل مؤازرة قوة أجنبية معادية أو يسلكون مسلك الجاهلين السفهاء الذين يهزؤون بديانة شركاءهم في الوطن ويلعبون برموزه وشعائره. ومن يتصف بهكذا مواصفات فإن المسلم الذي يتخذه ولياً من دون المؤمنين سواء بمعنى النصرة أو بمعنى الصداقة يكون آثماً باختياره جانب عدوه أو جانب المستهزئ بدينه على حساب عقيدته. وهذا مبدأ لا يعارضه أي إنسان سليم سواء كان مسلما أو غير مسلم . حتى أن الإسلام يمنع أتباعه من سب آلهة المشركين كي لا يسب المشركون دين المسلمين :﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾  إذا كان هذا سلوك المسلم مع دين المشركين فكيف إذا كان الأمر مع أديان أهل الكتاب الذين يؤمن بهم المسلم ويبجل أنبياءهم ويذكرهم في صلاته ويتسمى بأسماءهم ويقتضي بأقوالهم وأفعالهم.

إلى جانب آية عدم موالاة غير المسلمين توجد في القرآن الكريم آيات يفهم من ظاهرها العنف والجهاد ضد غير المسلمين ، فمعظم التفاسير التي أعطيت لها كتبت في عصور الظلام وعلى وقع طبول الحروب والتخوين حتى بات البعض يظن هذه التفاسير البشرية هي مسلمات بديهية، والحقيقة هي على العكس تماماً، فالإسلام بعكس ما شاع في الغرب بأنه دين عنف لم يتوسع دينياً بالسيف وإن استخدم بعض السلاطين البطش والسيف أداة للتوسع، إلا أن العدالة كانت تنتصر في النهاية .في رواية أجمع عليها المؤرخون عن الفتح العربي لمدينة سمرقند، أنه بعد فتحها أرسل كبير كهنتها رسالة الى الخليفة عمر بن عبد العزيز يشكو فيها قائد الجيوش قتيبة بن المسلم الباهلي، فأرسل عمر ابن عبد العزيز رسالة إلى القاضي للنظر فيها فعقد القاضي جلسة محاكمة لقائد الجيوش أمام كبير الكهنة وأقر قائد الجيوش قتيبة بما فعله متذرعاً بأنها الحرب والخديعة فرد عليه القاضي قائلا يا قتيبة ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل ثم قال : قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء وأن تترك الدكاكين والبيوت، وأنْ لا يبقى في سمرقند أحد من المسلمين، وبعد ساعات قليلة من صدور قرار القاضي سمع أهل سمرقند بجلبة تعلو وأصوات تعلن خروج الجيوش  فسألوا فقيل لهم إنَّ حكم القاضي قد نُفِذَ وأنَّ الجيش قد انسحب ، ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر، حتى خرجوا أفواجاً وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يطلبون عودة الجيوش نظراً لما وجدوه من عدل ورحمة لديهم.

في ختام هذه المداخلة لا بد من أن أشير إلى أن اليهودية كما المسيحية كما الإسلام كما باقي الأديان احتوت على نصوص دينية تحدثت عن وقائع معينة فهم من ظاهرها العنف وتأجيج الصراع إلا أن الأمر ليس كذلك لا يجوز إطلاقها واستخلاص النتائج منها وتطبيقها على كافة العصور والأزمنة، بل لا بد من فهمهما بعمقها التشريعي والذي قد يكون تشريعاً آنياً مؤقتاً شرع وفق ظروف معينة. ويجب فهم النصوص الدينية كافة بدون استثناء إلى أنها أوحي بها من رب رحيم مشفق محب عادل يريد بها سعادة الناس جميعاً من خلال دعوتهم كافة إلى الالتقاء والتعارف والتحابب فيما بينهم ونبذ التعصب والتقاتل وأن أي خروج عن هذا المفهوم هو خطأ في ادراك الناس لحقيقته التي لا يتحمل مسؤولية الجهل بها سوى الناس أنفسهم ولا يتحملها مطلقاً رب العالمين ولا الرسل الذين أرسلهم لتبليغ رسالته اليهم، ولا الأديان التي جاء بها لإرشادهم على مر العصور والأزمنة.    

إن الأديان السماوية وخاصة المسيحية والإسلام تدعو إلى الاستقامة وإشاعة السلام والمحبة بين الناس والعدل بين سائر بني البشر ، والخطأ لا يكمن في الدين وإنما في تصرفات بعض الجهلة والمتعصبين الذين اعتنقوا هذه الأديان وسخروها لمآربهم الشخصية، أو من بعض المؤمنين الصادقين الذين لم يفهموا الدين على شكله الصحيح  فافتروا على الدين من حيث لم يعلموا فضلوا وأضلوا.

تكون الأديان خلاصاً للبشرية بالعلم والتوعية ويقظة الضمير والتقوى والخشية من الله تعالى وبإشاعة المحبة بين جميع الناس.

لا تكون الأديان سبباً للصراعات في حال محاربتها الجهل وغربلتها للنصوص الدينية التي كتبت في عصور الظلام والحقد والفتن، وبإجتزاز الخطاب الديني التكفيري من أصوله. روي عن إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الأخرون قولهم : ” إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر

وكذلك تكون الأديان مدعاة للخير عندما تحكم العقل وتؤول النص الديني في حال معارضته للعقل. فقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل فى الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه : ” إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوِّل النقل ” تغليباً للمصلحة، المعتبرة وإعمالاً لمقاصد الشريعة .