شريط الملتقى

مقالات

الكلمة الافتتاحية للعلامة السيد علي فضل الله في الندوة التكريمية للعلامة الشيخ عبد الله العلايلي

(محاضرة ألقيت في الندوة التكريمية للعلامة الشيخ عبد الله العلايلي بدعوة من ملتقى الأديان والثقافات بتاريخ 28-2-2017)

في البدايةِ، أشكركُم على حضورِكم ومشاركتِكم في هذا اللقاء، لتكريمِ واحدٍ منَ الرموزِ الَّتي مرَّتْ على هذا الوطنِ، وخاضَتْ مغامرةَ التجديدِ، لا لنعيدَ تاريخاً غالباً ما نستعيدُه لنغطّيَ بهِ عيوبَ حاضرِنا، بل لنثبتَ حاضراً ومستقبلاً يتطلعُ إلى تجاوزِ هذا المأزقِ التاريخيِ الذي يمرُ بهِ الوطنُ والأمةُ.
لقد أتى هذا التكريمُ بالشراكةِ بينَ ملتقى الأديانِ والثقافاتِ للتنميةِ والحوارِ، وكليةِ الدراساتِ الإسلاميةِ في جمعيةِ المقاصدِ الخيريةِ، كواحدٍ منْ سلسلةِ الفعالياتِ المشتركةِ التي نأملُ أنْ نوفّقَ للقيامِ بها، من أجلِ تعزيزِ أواصرِ الوحدةِ الإسلاميةِ، في إطارِ تثبيتِ دعائمِ الوحدةِ الوطنيةِ وبعثِ روحِ التجددِ والانفتاحِ، في مواجهةِ دعواتِ الانقسامِ والتشرذمِ والتعصبِ والانغلاقِ والجمودِ التي يُسعى إلى تكريسِها.. وقد كانَ اختيارُنا المشتركُ لشخصيةِ العلامةِ الشيخ عبد الله العلايلي، لأنّه يمثلُ واحداً منَ النماذجِ التي قدمَتْ تجربتَها في التعاملِ معَ كلِ هذه المعاني الوحدويةِ والوطنيةِ والإنسانيةِ، من خلالِ علمِه وآرائِه ومواقفِه.
لقدْ تنوعَتِ القضايا التي خاضَ الشيخُ العلايلي غمارَها، بينَ قضايا لغويةٍ وفكريةٍ وفقهيةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ.. ولكنَ هناكَ جامعاً حكمَها كلَّها، هو رغبتُه في التجديدِ. وعندما قصدَ التجديدَ، لم يردْ أنْ يلغيَ ما قامَ به السابقونَ أو أن يهدمَه، بل حاولَ أنْ يعيدَ إظهارَه بالصورةِ التي تجعلُه صالحاً لمواكبةِ تطوراتِ العصرِ وحاجاتِه، وإنْ أمكنَ أنْ يكونَ قابلاً لأنْ يتواءمَ مع العصورِ اللاحقةِ.
كانَ يريدُ أنْ تبدوَ اللغةُ معاصرةً، وأنْ لا تبقى لغةَ الماضي، وأنْ يحكمَ العقلُ المستنيرُ بالنصِ قضايا الفقهِ والفكرِ والسياسةِ والاجتماعِ.. ولذلكَ، تراهُ لم يخلدْ للمتعارفِ والسائدِ والمشهورِ، ولما يجري عليهِ الناسُ، بحيثُ يقالُ فيه أَبقِ ما كانَ على ما كانَ.. كانَتْ له جرأةُ أنْ يقولَ لا لما يراهُ مجافياً للحقيقةِ أو للمنطقِ، حتى لو وقفَ الناسُ جميعاً في مواجهتِه، وكثيراً ما كانَ يردُ على الذينَ ينتقدونَه، حينَ كانَ يواجهُ أولئكَ الذينَ يحملونَ الألقابَ الكبيرةَ والمواقعَ العليا، قائلينَ: "ومن هوَ ليردَّ كلامَهم؟"، فكانَ يقولُ لهم:"همْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ، ليسَتْ عقولُهم من ذهبٍ وعقولُنا من تنكٍ".
وكان يقول: ليسَ محافظةً التقليدُ معِ الخطأ، وليسَ خروجاً التصحيحُ الذي يُحققُ المعرفة.. ويقولُ لستُ أؤمنُ بالأسوارِ التي تحاطُ بها الأفكارُ، ولا بالقوالبِ الجامدةِ.. هذهِ قاعدةُ كلِ تحركٍ عندي، لأنَ الإيمانَ بها إيمانٌ بالجمودِ، وأنا لا أؤمنُ بالجمودِ.. فاللهُ لم يخلقْ لي عقلاً حتى أجمدَه أو حتى أؤجرَه وأبيعَه للآخرينَ...
وهو لذلكَ لمْ يسلمْ منْ ألسنةِ الرافضينَ لمنطقِه، ممنْ استكانوا للحالِ الذي همْ عليه، منَ الاستغراقِ في تراثِ السابقينَ، لا لأنّ فيهِ عناصرَ قابلةً لتعيشَ في الحاضر، فهناكَ في تراثِنا ما يخدمُ حاضرَنا ومستقبلَنا، ولكن لأنه التراث.. وللأسفِ، فهؤلاء لم يواجهوا الشيخ العلايلي بالدليلِ والحجةِ والمنطقِ، بل بالتشكيكِ والتضليلِ والتكفيرِ، وحتى بالإخراجِ من الدين..
لكنَّ كلَّ ذلكَ لم يجعلْه يتراجعُ، كما لم يتراجعْ غيرُه، بل بقيَ يعبّرُ عنْ قناعاتِه.. ويؤمنُ بأنَّ التضحيةَ لا ينبغي أنْ تقفَ عندَ حدودِ الدّفاعِ عنِ الأوطان، بل أيضاً بالدّفاعِ عنْ الدينِ والمنطقِ والسياسةِ الرشيدةِ.. وكما أنّ هناكَ أشخاصاً يبذلونَ دماءَهم منْ أجلِ الوطنِ ليسلمَ الوطنَ، رأى ضرورةَ أن يضحيَ الإنسانُ المفكرُ ليسلمَ الفكرُ وتسلمَ الحياةُ. وكان يعتبرُ أنّ جهودَه الفكريةَ الكبيرة، ما لم يقدرْها من همْ في الحاضر، فسينصفُه فيها الذين يأتونَ في المستقبلِ..
لقد كانَ الشيخُ عبد الله العلايلي تجديدياً عندما طرقَ أبوابَ اللغةِ العربية؛ اللغةِ التي أحبَها وعشقَها، ولم يتنكرْ لها كما فعلَ هؤلاء الذينَ استلبوا لثقافاتٍ وحضاراتٍ أخرى، فاستبدلوا بها غيرَها، ولم يحقّقوا ما وعدوا بهِ منْ نهوضٍ.
لذلكَ سعى إلى تطويرِها وتوسعتِها لتلبيَ التطوراتِ المستجدةَ في العصر، فاللغةُ ينبغي أنْ تتفاعلَ مع كلِّ هذهِ المتغيرات، حتى تبقى حاضرةً إلى جانبِ اللغاتِ الأخرى، فلا تتخلفَ عنها، فكرسَ نفسَه وحيداً، وبجهدٍ غيرِ مسبوقٍ لهذا العمل الذي يحتاجُ إلى مراكزَ علميةٍ ودعمٍ كبيرٍ.
لقد كانَ الشيخُ العلايلي يؤمنُ بأنَّ اللغةَ، أيَّ لغةٍ، ينبغي أنْ تكونَ في تطورٍ دائمٍ حتى تعكسَ صورةَ العالمِ الذي نكادُ نجدُ فيه في كلِ يومٍ جديداً لا بدَ منْ استيعابِه لتلبيةِ احتياجاتِ الناطقينَ بها.. وقد انتهى جهدُه إلى تأسيسِ معجمٍ في اللغةِ العربيةِ، يلبي احتياجاتِ الحياةِ المعاصرةِ، ويحاكي النظرياتِ العلميةَ والفلسفيةَ والتطورَ التقنيَ.. وقد ساعدَه على ذلكَ انفتاحُه على الثقافةِ الغربيةِ، ووعيُه لمفاهيمِها ومصطلحاتِها، وقدرتُه الفائقةُ على الإمساكِ بزمامِ هذه اللغةِ التي كانَتْ مطواعةً له، يحركها كما يشاءُ وفقَ الأصولِ العلميةِ.. وهوَ بذلكَ كانَ يخوضُ أهمَ معاركِه الحضاريةِ في مواجهةِ استحقاقين:
الأول: الحؤولُ دونَ أنْ تصبحَ اللغةُ العربيةُ هجينةً، كما يتعاملُ معها الكثيرونَ اليومَ.
والثاني: مواجهةُ هذا التمزقِ والتشرذمِ الحالي الَّذي يلفُّ الواقعَ العربيَ، الذي لم تبقَ فيه رابطةٌ تجمعُه إلا عنصرُ اللغة، كرابطٍ وحيدٍ بين الشعوبِ العربية.
لقدْ أرادَ أنْ يعيدَ الثقةَ للعالمِ العربيِ بنفسِه منْ خلالِ الثقةِ بلغتِه.. ولم يقفْ جهدُه على ذلكَ، بل كانَتْ له دراساتُه في نشوءِ اللغةِ وتطوّرِها، وله اجتهاداتُه التي أثارَتْ جدلاً علمياً.. وقد عبَّرَ عنه في كتابِه "مقدمةٌ لدرسِ لغةِ العرب".
وقد انعكسَ اهتمامُ الشيخ العلايلي باللغةِ على أسلوبِه الأدبيِّ المميّزِ، الذي طبعَ كلَّ المجالاتِ التي طرقَها وعالجَها... فقد كانَ شديدَ الحرصِ على إخراجِها متأنّقةً بأبهى صورِها، لتعبرَ أفضلَ تعبيرٍ عنِ الروحِ والمعنى...
ولم يقفِ التجديدُ عندَ هذا الحد، بل برزَ بشكلٍ واضحٍ وجليٍ في وعيِه وفهمِه للدينِ وللفقهِ والشريعةِ.. لكونَ الدينِ الأساسَ في تكوينِ شخصيةِ الشيخِ العلايلي، باعتبارِه عالماً دينياً أزهرياً، فقدْ كانَ تجديدياً رغمَ معرفته صعوبةِ انتهاجِ هذا الطريقِ، لأنّ المسَّ بما له صلةٌ بالدينِ، ولو كان فهماً أو اجتهاداً، يعتبرُ مساً بالمقدسِ، ولذا تكونُ ردودُ الفعلِ عليه كبيرةً..
لذا كانَتْ نظرةُ الشيخ العلايلي إلى الدّينِ نظرةً حضاريةً، بنيتْ على قواعدَ متينةٍ، وهي أنَّ الإسلامَ رسالةُ إصلاحٍ لا تقليد، رسالةُ إنسانيةٍ لا طائفيةٍ.. رسالةُ الحاضرِ والمستقبلِ لا رسالةُ الاستغراقِ في الماضي...
وقد آمنَ الشيخ العلايلي بأنَّ الدينَ جاءَ لخدمةِ الإنسانِ، لا أنَ الإنسانَ جاءَ لخدمةِ الدينِ.. ولذلكَ، دعا إلى أنسنةِ الدينِ ورفضِ الفتاوى التي تسيءُ إلى إنسانيةِ الدينِ.. وآمنَ بقداسةِ النصوصِ الدينيةِ، ولكنه ما كانَ يرى أنَ فهمَنا للدينِ مقدس.. ولذلكَ لم يقفْ عندَ أيِّ حاجزٍ يمنعُه منَ التجديدِ في فهمِه للنصوصِ التي انطلقَ منها ولم يحدْ عنها.. وكان يتطلعُ إلى الشريعةِ بعينِ العصرِ؛ العينِ السليمةِ المنفتحةِ على آفاقِ الزمانِ والمكان..
ومهما كانَتْ وجهاتُ النظرِ مختلفةً بشأنِ أفكارِه وآرائِه، إلا أنَه كانَ المجتهدَ والفقيهَ في زمنٍ باتَ يطلقُ فيه هذا المصطلحُ على عواهنِه، فالمجتهدُ ليسَ هو الحافظَ لنتاجِ الآخرين، ولا الذي يقتاتُ على موائدِ السابقين، بل هوَ الذي يستثمرُ فكرَهم ليتجاوزَهم... فالمجتهدُ في التعريفِ هو المبدعُ الذي يمتلكُ الرؤيةَ والبصيرةَ والمنهجَ والمعاييرَ التي يحتكمُ إليها في فهمِه للدينِ وفي استنباطِ الأحكامِ الشرعيةِ، والتي يحاكمُ بها الأفكارَ والمفاهيمَ والفتاوى الدينيةَ في ضوءِ الأصولِ العلميةِ والمقاصدِ الدينيةِ الإنسانيةِ، والمجتهدُ هوَ الَّذي يمتلكُ القدرةَ على اكتشافِ ما لم يكتشفْ منْ دلالاتٍ في النّصوصِ.
والفقيهُ الفقيهُ هوَ الشجاعُ، الجريءُ، الذي يطرحُ قناعاتِه الاجتهاديةَ منْ دونِ خوفٍ منْ مؤسَّسةٍ دينيَّةِ، ومنِ دونِ مداهنةٍ للسلطاتِ السياسيةِ أو مجاملةِ الناسِ العاديينَ، ومنْ دونِ أنْ يأسرَه إجماعُ مدّعًى أو شهرةٌ خاليةٌ منَ الدليلِ.
منْ هنا، جاءَتْ اجتهاداتُه التي أرادَ لها أنْ تلبيَ تطلعاتِ الإنسانِ إلى الخيرِ والحريةِ والعدالةِ والكرامةِ، وهكذا نظرَ إلى مفهومِ الثروةِ التي اعتبرَها ثروةَ المجتمع، فلا بدَّ من أنْ تدارَ لحفظِ التوازنِ الاجتماعيِ والتكافلِ الإنساني، لذا حرَّمَ اكتنازَ المالِ والثروةِ، منطلقاً من قولِه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا}، ودعا إلى تداولِ المالِ وعدمِ تجميدِه.. وأفتى بوجوبِ القرضِ، انطلاقاً من قولِه {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}.. لذوي الحاجةِ، مع إمهالِهم إلى حالةِ اليسرِ عندما لا يستطيعونَ الوفاءَ بهِ، {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، وحرمَ احتكارَ الحاجاتِ الضروريّةِ، ولا سيّما الثرواتِ الطبيعيةِ، وخصوصاً النفطَ، الذي رآهُ ملكاً عاماً يستحقُ كلُ العربِ والمسلمينَ أن ينتفعوا به، لا الدولُ التي تنتجُه فحسب، ودليلُه في ذلكَ الحديثُ النبويُ: "الناسُ شركاءُ في ثلاث: الماءُ والكلأُ والنارُ".
وهكذا، نظرَ إلى قضيةِ العقوباتِ، فرأى أنّ العقوباتِ المنصوصةَ ليسَ المقصودُ منها أعيانَها، بل غاياتِها، وأنَّ العقوبةَ الواردةَ بحقِّ السارقِ أو الزاني أو غيرِه، لا يتمُ اللجوءُ إليها إلا بعدَ اليأسِ من كلِّ الروادعِ الأخرى، أيْ حينَ تتلبسُ صفةُ السرقةِ أو صفةُ الزنا بشخصيةِ المرتكبِ.. وحيثُ لا يمكنُ منعُ ضررِه إلا بذلكَ.. وقد أفتى مبكراً، ومنذ الثلاثينات، في موضوعِ استغلالِ الأضاحي في موسمِ الحجِ عنِ طريقِ تعليبِها، لكيْ لا تهدرَ هذهِ الثروةُ الغذائيةُ.. وهكذا كانَ منسجماً مع العلمِ الذي عجزَ الكثيرونَ منْ رجالِ الدينِ عنْ بناءِ وعيٍ للدينِ لا يناقضُه (العلم)، لذا استندَ إلى المنهجِ العلميِ في معرفةِ بدايةِ الأشهرِ القمريةِ، فيما لا يزالَ المسلمونَ، ومنْ مختلفِ المذاهبِ، يختلفونَ إلى الآنَ، وفي ذروةِ التقدمِ العلميِ، فيما إذا كانَ القمرُ ولدَ أم لا.
وقد أفتى بغيرِ ذلكَ من الفتاوى التي أنتجَت، ولا تزالُ، مناخاً منَ الإثارةِ والتساؤلاتِ، كما في قضيةِ العملِ المصرفيِ وإباحةِ الفائدة، وفي قضيةِ الزواجِ المختلطِ، وعدمِ وجودِ حدِّ الرجمِ في الإسلامِ.. وغيرِها منَ القضايا التي أطلقَها في ضوءِ قراءتِه للنصوصِ، وهوَ يحاولُ الإجابةَ عنْ مسائلَ تسدُ حاجاتِ الناسِ، وتعالجُ مشكلاتٍ اجتماعيةً قد تمتدُ إلى التأثيرِ في الوحدةِ الوطنيةِ.
ولمْ يُغفلِ الشيخُ العلايلي تحديدَ موقفِه منَ العملِ السياسيِ، فتعاملَ مع السياسةِ منْ موقعِ الملتزمِ بقضايا الوطنِ والأمةِ؛ قضايا العدلِ والحريةِ والمساواةِ، فالسياسةُ،كان يراها، هيَ فعلٌ دينيٌ، هي عبادةٌ تؤديها لربِك...
كانَ يرى أنَّ السياسيَّ ينبغي أنْ يستعيرَ منَ الدينِ منظومتَه الأخلاقيةَ والروحيةَ، ويطبعَه بطابعِه الرحبِ والمتسامحِ والمحكومِ بالفضائلِ الإنسانيةِ..لم يقبلِ العلايلي أنْ يتقوقعَ في زاويةٍ منْ زوايا صومعتِه، بعيداً عنْ مشكلاتِ إنسانِه ومجتمعِه، بل أرادَ، ومنْ موقعِ معرفتِه وأخلاقِه، أن يخدمَ المجتمعَ والإنسانَ والوطنَ والإنسانيةَ، لا عرقاً أو طائفةً أو جماعةً أو حزباً، كما نعيشُ اليومَ، في ظلِّ هذا التناحرِ الطائفيِّ والمذهبيِّ والحزبي، حيثُ يريدُ كلُ طرفٍ الغنيمةَ لنفسِه، ولو على حسابِ استقرارِ الوطنِ ووحدتِه.
أليسَ هذا ما نشهدُه اليومَ في قانونِ الانتخابِ!؟
لقدْ طمحَ العلايلي إلى عالمٍ تحكمُه العدالةُ، يتجلَّى في المجتمعِ العربيِ والإسلاميِ، لينعمَ بالحريةِ والسعادةِ والسلامِ، وحرصَ على أنْ يعمَّ ذلك كلَّ المجتمعِ، وكلَّ إنسانٍ، أياً كان دينُه أو عرقُه، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
قدْ تختلفُ معَ الشيخِ العلايلي في أكثرَ منْ فكرةٍ أو رأيٍ، وحتى في كلِّ أفكارِه وآرائه، ولكنَكَ لا تستطيعُ إلا أن تحترمَ رأيَه وعقلَه، فهوَ لمْ يكنْ يلقي الكلامَ جزافاً، ولم يكنْ يريدُ أنْ يستجديَ في مواقفِه رضا الآخرين، بل كانَ منسجماً مع نفسِه.. يقولُ ما يرى، لا ما يرى الآخرونَ.. لم يطمحْ إلى تحقيقِ أيِّ مكاسبَ ذاتيةٍ، والكلُّ يعرفُ أنَّ منْ آرائِه ما استوجبَ أنْ تُمنعَ كتبُه، أو أنْ لا يتلقّى دعواتٍ إلى مناسباتٍ ولقاءاتٍ وحواراتٍ..
في يومِ تكريمِ سماحةِ الشيخ عبد العلايلي، لا بدَّ منْ أنْ أستحضرَ أخيراً تلكَ العلاقةَ الوطيدةَ التي ربطَتْه بسماحةِ السيدِ الوالدِ محمد حسين فضل الله، والاحترامَ المتبادلَ بينهما، حينَ تلاقيا على فهمِ الدينِ بشكلِه المنفتحِ على الحياة والعصرِ وكلِ آفاقِ التطور، وعلى أنْ لا قداسةَ إلا للمقدسِ..
كمْ نحنُ بحاجةٍ اليومَ في مرحلتِنا الراهنة، إلى مثلِ هؤلاءِ العلماءِ الكبارِ، الذينَ، وإن اختلفَ الناسُ حولَ بعضِ أفكارِهم، إلا أنَّهم من دونِ شكٍّ حاولوا أن يشرعوا لنا الكثيرَ منَ الأبوابِ التي تفتحُ لنا أكثَرَ منْ طريقٍ لمستقبلٍ أفضل، ولإسلامٍ مشرقٍ يبددُ ظلامَ حاضرِنا الدامس، ويخرجُنا منَ الزنازينِ الطائفيةِ والفكريةِ والاجتماعيةِ، فلا خلاصَ لنا إلا بحياةٍ نرتقي بها في عقولِنا وقلوبِنا ووجدانِنا في أيِّ أرضٍ نكونُ عليها.